وقيل وهو الصحيح أنه معلل بخشية مبيت الشيطان على يده , أو مبيتها عليه. وهذه العلة نظير تعليل صاحب الشرع الاستنشاق بمبيت الشيطان على الخيشوم فإنه قال: " إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنشق بمنخريه من الماء , فإن الشيطان يبيت على خيشومه " متفق عليه. وقال هنا: " فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده؟ ". فعلل بعدم الدراية لمحل المبيت. وهذا السبب ثابت في مبيت الشيطان على الخيشوم فإن اليد إذا باتت ملابسة للشيطان لم يدر صاحبها أين باتت , وفي مبيت الشيطان على الخيشوم وملابسته لليد سر , يعرفه من عرف أحكام الأرواح , واقتران الشياطين , بالمحال التي تلابسها , فإن الشيطان خبيث يناسبه الخبائث , فإذا نام العبد لم ير في ظاهر جسده أوسخ من خيشومه , فيستوطنه في المبيت , وأما ملابسته ليده فلأنها أعم الجوارح كسبا وتصرفا ومباشرة لما يأمر به الشيطان من المعصية , فصاحبها كثير التصرف والعمل بها , ولهذا سميت جارحة , لأنه يجترح بها , أي يكسب. وهذه العلة لا يعرفها أكثر الفقهاء , وهي كما ترى وضوحا وبيانا. وحسبك شهادة النص لها بالاعتبار.
والمقصود أنه لا دليل لكم في الحديث بوجه ما , والله أعلم.
وقد تبين بهذا جواب المقامين: الثاني والثالث.
فلنرجع إلى الجواب عن تمام الوجوه الخمسة عشر , فنقول: وأما تقديمكم للمفهوم من حديث القلتين على القياس الجلي , فمما يخالفكم فيه كثير من الفقهاء والأصوليين , ويقولون: القياس الجلي مقدم عليه , وإذا كانوا يقدمون القياس على العموم الذي هو حجة الاتفاق , فلأن يقدم على المفهوم المختلف في الاحتجاج به أولى.
ثم لو سلمنا تقديم المفهوم على القياس في صورة ما , فتقديم القياس هاهنا متعين , لقوته , ولتأيده بالعمومات , ولسلامته من التناقض الملازم لمن قدم المفهوم , كما سنذكره , ولموافقته لأدلة الشرع الدالة على عدم التحديد بالقلتين. فالمصير إليه أولى , ولو كان وحده , فكيف بما معه من الأدلة؟ وهل يعارض مفهوم واحد لهذه الأدلة من الكتاب , والسنة , والقياس الجلي , واستصحاب الحال , وعمل أكثر الأمة مع اضطراب أصل منطوقه , وعدم براءته من العلة والشذوذ؟ قالوا: وأما دعواكم أن المفهوم عام في جميع الصور المسكوت عنها , فدعوى لا دليل عليها فإن الاحتجاج بالمفهوم يرجع إلى حرفين: التخصيص , والتعليل , كما تقدم. ومعلوم أنه إذا ظهر للتخصيص فائدة بدون العموم بقيت دعوى العموم باطلة , لأنها دعوى مجردة , ولا لفظ معنا يدل عليها. وإذا علم ذلك فلا يلزم من انتفاء حكم المنطوق انتفاؤه عن كل فرد من أفراد المسكوت , لجواز أن يكون فيه تفصيل فينتفي عن بعضها ويثبت لبعضها , ويجوز أن يكون ثابتا لجميعها بشرط ليس في المنطوق , فتكون فائدة التخصيص به لدلالته على ثبوت الحكم له مطلقا , وثبوته للمفهوم بشرط. فيكون المنفي عنه الثبوت المطلق , لا مطلق المثبوت. فمن أين جاء العموم للمفهوم , وهو من عوارض الألفاظ؟ وعلى هذا عامة المفهومات. فقوله تعالى {لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} لا يدل المفهوم على أن بمجرد نكاحها الزوج الثاني تحل له. وكذا قوله: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا}: لا يدل على عدم الكتابة عند عدم هذا الشرط مطلقا. وكذا قوله: {والذين يبتغون الكتاب}. ونظائره أكثر من أن تحصى. وكذلك إن سلكت طريقة التعليل لم يلزم العموم أيضا , فإنه يلزم من انتفاء العلة انتفاء معلولها , ولا يلزم انتفاء الحكم مطلقا , لجواز ثبوته بوصف آخر. وإذا ثبت هذا فمنطوق حديث القلتين لا ننازعكم فيه , ومفهومه لا عموم له. فبطل الاحتجاج به منطوقا ومفهوما. وأما قولكم: إن العدد خرج مخرج التحديد والتقييد - كنصب الزكوات - فهذا باطل من وجوه:
¥