وكل من استدل بظاهر هذا الحديث على نجاسة الماء الدائم لوقوع النجاسة فيه فقد ترك من ظاهر الحديث ما هو أبين دلالة مما قال به , وقال بشيء لا يدل عليه لفظ الحديث. لأنه إن عمم النهي في كل ماء بطل استدلاله بالحديث , وإن خصه بعذر خالف ظاهره , وقال ما لا دليل عليه , ولزمه أن يجوز البول فيما عدا ذلك القدر وهذا لا يقوله أحد.
فظهر بطلان الاستدلال بهذا الحديث على التنجيس بمجرد الملاقاة على كل تقدير.
وأما من قدر. بالحركة , فيدل على بطلان قوله: أن الحركة مختلفة اختلافا لا ينضبط , والبول قد يكون قليلا وقد يكون كثيرا , ووصول النجاسة إلى الماء أمر حسي , وليس تقديره بحركة الطهارة الصغرى أو الكبرى أولى من سائر أنواع الحركات , فيا لله للعجب! حركة الطهارة ميزان ومعيار على وصول النجاسة وسريانها , مع شدة اختلافها؟ ونحن نعلم بالضرورة أن حركة المغتسل تصل إلى موضع لا تصل إليه القطرة من البول , ونعلم أن البولة الكبيرة تصل إلى مكان لا تصل إليه الحركة الضعيفة , وما كان هكذا لم يجز أن يجعل حدا فاصلا بين الحلال والحرام.
والذين قدروه بالنزح أيضا قولهم باطل , فإن العسكر العظيم يمكنهم نزح ما لا يمكن الجماعة القليلة نزحه. وأما حديث " ولوغ الكلب " فقالوا: لا يمكنكم أن تحتجوا به علينا , فإنه ما منكم إلا من خالفه أو قيده أو خصصه فخالف ظاهره , فإن احتج به علينا من لا يوجب التسبيع ولا التراب , كان احتجاجه باطلا. فإن الحديث إن كان حجة له في التنجيس بالملاقاة , فهو حجة عليه في العدد والتراب. فأما أن يكون حجة له فيما وافق مذهبه , ولا يكون حجة عليه فيما خالفه فكلا. ثم هم يخصونه بالماء الذي لا تبلغ الحركة طرفيه , وأين في الحديث ما يدل على هذا التخصيص؟
ثم يظهر تناقضهم من وجه آخر: وهو أنه إذا كان الماء رقيقا جدا , وهو منبسط انبساطا لا تبلغه الحركة: أن يكون طاهرا ولا يؤثر الولوغ فيه , وإذا كان عميقا جدا وهو متضايق , بحيث تبلغ الحركة طرفيه: أن يكون نجسا , ولو كان أضعاف أضعاف الأول. وهذا تناقض بين لا محيد عنه.
قالوا: وإن احتج به من يقول بالقلتين فإنه يخصصه بما دون القلتين , ويحمل الأمر بغسله وإراقته على هذا المقدار , ومعلوم أنه ليس في اللفظ ما يشعر بهذا بوجه ولا يدل عليه بواحدة من الدلالات الثلاث. وإذا كان لا بد لهم من تقييد الحديث وتخصيصه ومخالفة ظاهره , كان أسعد الناس به من حمله على الولوغ المعتاد في الآنية المعتادة التي يمكن إراقتها , وهو ولوغ متتابع في آنية صغار. يتحلل من فم الكلب في كل مرة ريق ولعاب نجس يخالط الماء , ولا يخالف لونه لونه , فيظهر فيه التغير , فتكون أعيان النجاسة قائمة بالماء وإن لم تر , فأمر بإراقته وغسل الإناء. فهذا المعنى أقرب إلى الحديث وألصق به , وليس في حمله عليه ما يخالف ظاهره. بل الظاهر أنه إنما أراد الآنية المعتادة التي تتخذ للاستعمال فيلغ فيها الكلاب , فإن كان حمله على هذا موافقة للظاهر فهو المقصود , وإن كان مخالفة للظاهر , فلا ريب أنه أقل مخالفة من حمله على الأقوال المتقدمة. فيكون أولى على التقديرين.
قالوا: وأما حديث النهي عن غمس اليد في الإناء عند القيام من نومه , فالاستدلال به أضعف من هذا كله , فإنه ليس في الحديث ما يدل على نجاسة الماء. وجمهور الأمة على طهارته , والقول بنجاسته من أشذ الشاذ , وكذا القول بصيرورته مستعملا ضعيف أيضا , وإن كان إحدى الروايتين عن أحمد , واختيار القاضي وأتباعه , واختيار أبي بكر وأصحاب أحمد فإنه ليس في الحديث دليل على فساد الماء. وقد بينا أن النهي عن البول فيه لا يدل على فساده بمجرد البول , فكيف بغمس اليد فيه بعد القيام من النوم؟
وقد اختلف في النهي عنه , فقيل: تعبدي , ويرد هذا القول: أنه معلل في الحديث بقوله: " فإنه لا يدري أين باتت يده؟ ".
وقيل: معلل باحتمال النجاسة , كثرة في يديه , أو مباشرة اليد لمحل الاستجمار. وهو ضعيف أيضا. لأن النهي عام للمستنجي والمستجمر , والصحيح وصاحب البثرات. فيلزمكم أن تخصوا النهي بالمستجمر , وصاحب البثور! وهذا لم يقله أحد.
¥