رطل بالعراقي أو خمسمائة , مع ما يتضمنه التجويز من الفساد العام وإفساد موارد الناس ومياههم عليهم؟
وكذلك حمله على ما لا يمكن نزحه , أو ما لا يتحرك أحد طرفيه بحركة طرفه الآخر , وكل هذا خلاف مدلول الحديث , وخلاف ما عليه الناس وأهل العلم قاطبة. فإنهم ينهون عن البول في هذه المياه , وإن كان مجرد البول لا ينجسها , سدا للذريعة. فإنه إذا مكن الناس من البول في هذه المياه وإن كانت كبيرة عظيمة لم تلبث أن تتغير وتفسد على الناس , كما رأينا من تغير الأنهار الجارية بكثرة الأبوال. وهذا كما نهى عن إفساد ظلالهم عليهم بالتخلي فيها , وإفساد طرقاتهم بذلك. فالتعليل بهذا أقرب إلى ظاهر لفظه صلى الله عليه وسلم , ومقصوده , وحكمته بنهيه , ومراعاته مصالح العباد , وحمايتهم مما يفسد عليهم ما يحتاجون إليه من مواردهم وطرقاتهم وظلالهم , كما نهى عن إفساد ما يحتاج إليه الجن من طعامهم وعلف دوابهم.
فهذه علة معقولة تشهد لها العقول والفطر , ويدل عليها تصرف الشرع في موارده ومصادره , ويقبلها كل عقل سليم , ويشهد لها بالصحة.
وأما تعليل ذلك بمائة وثمانية أرطال بالدمشقي , أو بما يتحرك أو لا يتحرك , أو بعشرين ذراعا مكسرة , أو بما لا يمكن نزحه فأقوال , كل منها بكل معارض , وكل بكل مناقض , لا يشم منها رائحة الحكمة , ولا يشام منها بوارق المصلحة , ولا تعطل بها المفسدة المخوفة. فإن الرجل إذا علم أن النهي إنما تناول هذا المقدار من الماء لم يبق عنده وازع ولا زاجر عن البول فيما هو أكثر منه , وهذا يرجع على مقصود صاحب الشرع بالإبطال. وكل شرط أو علة أو ضابط يرجع على مقصود الشارع بالإبطال كان هو الباطل المحال.
ومما يدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في النهي وصفا يدل على أنه هو المعتبر في النهي. وهو كون الماء " دائما لا يجري " ولم يقتصر على قوله " الدائم " حتى نبه على العلة بقوله " لا يجري " فتقف النجاسة فيه , فلا يذهب بها. ومعلوم أن هذه العلة موجودة في القلتين وفيما زاد عليهما.
والعجب من مناقضة المحددين بالقلتين لهذا المعنى , حيث اعتبروا القلتين حتى في الجاري , وقالوا: إن كانت الجرية قلتين فصاعدا لم يتأثر بالنجاسة , وإن كانت دون القلتين تأثرت , وألغوا كون الماء جاريا أو واقفا , وهو الوصف الذي اعتبره الشارع. واعتبروا في الجاري والواقف القلتين. والشارع لم يعتبره , بل اعتبر الوقوف والجريان.
فإن قيل: فإذا لم تخصصوا الحديث ولم تقيدوه بماء دون ماء , لزمكم المحال , وهو أن ينهى عن البول في البحر , لأنه دائم لا يجري. قيل: ذكره صلى الله عليه وسلم " الماء الدائم الذي لا يجري " تنبيه على أن حكمة النهي إنما هي ما يخشى من إفساد مياه الناس عليهم , وأن النهي إنما تعلق بالمياه الدائمة التي من شأنها أن تفسدها الأبوال. فأما الأنهار العظام والبحار فلم يدل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عليها بوجه , بل لما دل كلامه بمفهومه على جواز البول في الأنهار العظام كالنيل والفرات فجواز البول في البحار أولى وأحرى , ولو قدر أن هذا تخصيص لعموم كلامه , فلا يستريب عاقل أنه أولى من تخصيصه بالقلتين. أو ما لا يمكن نزحه , أو ما لا يمكن تبلغ الحركة طرفيه , لأن المفسدة المنهي عن البول لأجلها لا نزول في هذه المياه , بخلاف ماء البحر فإنه لا مفسدة في البول فيه. وصار هذا بمنزلة نهيه عن التخلي في الظل. وبوله صلى الله عليه وسلم في ظل الشجرتين واستتاره بجذم الحائط , فإنه نهى عن التخلي في الظل النافع , وتخلى مستترا بالشجرتين والحائط , حيث لم ينتفع أحد بظلهما , فلم يفسد ذلك الظل على أحد.
وبهذا الطريق يعلم أنه إذا كان صلى الله عليه وسلم قد نهى عن البول في الماء الدائم , مع أنه قد يحتاج إليه , فلأن ينهى عن البول في إناء ثم يصبه فيه بطريق الأولى. ولا يستريب في هذا من علم حكمة الشريعة , وما اشتملت عليه من مصالح العباد ونصائحهم. ودع الظاهرية البحتة , فإنها تقسي القلوب , وتحجبها عن روية محاسن الشريعة وبهجتها , وما أودعته من الحكم والمصالح والعدل والرحمة. وهذه الطريق التي جاءتك عفوا تنظر إليها نظر متكئ على أريكته قد تقطعت في مفاوزها أعناق المطي , لا يسلكها في العالم إلا الفرد بعد الفرد , ولا يعرف مقدارها من أفرحت
¥