عندهم. هذا بحمد الله واضح.
وأما قولكم: إنها متساوية المقدار , فهذا إنما قاله الخطابي , بناه على أن ذكرهما تحديد , والتحديد إنما يقع بالمقادير المتساوية. وهذا دور باطل , وهو لم ينقله عن أهل اللغة , وهو الثقة في نقله , ولا أخبر به عيان. ثم إن الواقع بخلافه , فإن القلال فيها الكبار والصغار في العرف العام أو الغالب , ولا تعمل بقالب واحد. ولهذا قال أكثر السلف: القلة الجرة. وقال عاصم بن المنذر أحد رواة الحديث: القلال الخوابي العظام. وأما تقديرها بقرب الحجاز فلا ننازعكم فيه , ولكن الواقع أنه قدر قلة من القلال بقربتين من القرب فرآها تسعهما , فهل يلزم من هذا أن كل قلة من قلال هجر تأخذ قربتين من قرب الحجاز؟ وأن قرب الحجاز كلها على قدر واحد , ليس فيها صغار وكبار؟ ومن جعلها متساوية فإنما مستنده أن قال: التحديد لا يقع بالمجهول , فيا سبحان الله! إنما يتم هذا أن لو كان التحديد مستندا إلى صاحب الشرع , فأما والتقدير بقلال هجر وقرب الحجاز تحديد يحيى بن عقيل وابن جريج , فكان ماذا؟ وأما تقرير كون المفهوم حجة , فلا تنفعكم مساعدتنا عليه , إذ المساعدة على مقدمة من مقدمات الدليل لا تستلزم المساعدة على الدليل.
وأما تقديمكم له على العموم فممنوع , وهي مسألة نزاع بين الأصوليين والفقهاء , وفيها قولان معروفان. ومنشأ النزاع تعارض خصوص المفهوم وعموم المنطوق , فالخصوص يقتضي التقديم , والمنطوق يقتضي الترجيح , فإن رجحتم المفهوم بخصوصه , رجح منازعوكم العموم بمنطوقه.
ثم الترجيح معهم هاهنا للعموم من وجوه: أحدها: أن حديثه أصح. الثاني: أنه موافق للقياس الصحيح.
الثالث: أنه موافق لعمل أهل المدينة قديما وحديثا , فإنه لا يعرف عن أحد منهم أنه حدد الماء بقلتين , وعملهم بترك التحديد في المياه عمل نقلي خلفا عن سلف , فجرى مجرى نقلهم الصاع والمد والأجناس , وترك أخذ الزكاة من الخضروات , وهذا هو الصحيح المحتج به من إجماعهم , دون ما طريقه الاجتهاد والاستدلال. فإنهم وغيرهم فيه سواء , وربما يرجح غيرهم عليهم , ويرجحوا هم على غيرهم. فتأمل هذا الموضع.
فإن قيل: ما ذكرتم من الترجيح فمعنا من الترجيح ما يقابله , وهو أن المفهوم هنا قد تأيد بحديث النهي عن البول في الماء الراكد , والأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب , والأمر بغسل اليد من نوم الليل , فإن هذه الأحاديث تدل على أن الماء يتأثر بهذه الأشياء وإن لم يتغير , ولا سبيل إلى تأثر كل ماء بها , بل لا بد من تقديره , فتقديره بالقلتين أولى من تقديره بغيرهما , لأن التقدير بالحركة , والأذرع المعينة , وما يمكن نزحه وما لا يمكن تقديرات باطلة لا أصل لها , وهي غير منضبطة في نفسها , فرب حركة تحرك غديرا عظيما من الماء , وأخرى تحرك مقدارا يسيرا منه , بحسب المحرك والمتحرك. وهذا التقدير بالأذرع تحكم محض لا بسنة ولا قياس , وكذا التقدير بالنزح الممكن مع عدم انضباطه , فإن عشرة آلاف مثلا يمكنهم نزح ما لا ينزحه غيرهم , فلا ضابط له. وإذا بطلت هذه التقديرات ولا بد من تقدير فالتقدير بالقلتين أولى لثبوته , إما عن النبي صلى الله عليه وسلم , وإما عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
قيل: هذا السؤال مبني على مقامات.
أحدها: أن النهي في هذه الأحاديث مستلزم لنجاسة الماء المنهي عنه.
والثاني: أن هذا التنجيس لا يعم كل ماء , بل يختص ببعض المياه دون بعض.
والثالث: أنه إذا تعين التقدير , كان تقديره بالقلتين هو المتعين.
فأما المقام الأول فنقول: ليس في شيء من هذه الأحاديث أن الماء ينجس بمجرد ملاقاة البول والولوغ وغمس اليد فيه. أما النهي عن البول فيه فليس فيه دلالة على أن الماء كله ينجس بمجرد ملاقاة البول لبعضه , بل قد يكون ذلك لأن البول سبب لتنجيسه , فإن الأبوال متى كثرت في المياه الدائمة أفسدتها , ولو كانت قلالا عظيمة. فلا يجوز أن يخص نهيه بما دون القلتين , فيجوز للناس أن يبولوا في القلتين فصاعدا , وحاشى للرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون نهيه خرج على ما دون القلتين , ويكون قد جوز للناس البول في كل ماء بلغ القلتين! أو زاد عليهما , وهل هذا إلا إلغاز في الخطاب؟ أن يقول " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري " ومراده من هذا اللفظ العام: أربعمائة
¥