وأما تقدير القلتين بقلال هجر , فقد قال الشافعي: حدثنا مسلم بن خالد عن ابن جريج بإسناد لا يحضرني ذكره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا " وقال في الحديث " بقلال هجر " وقال ابن جريج: أخبرني محمد أن يحيى بن عقيل أخبره أن يحيى بن يعمر أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا ولا بأسا " , قال: فقلت ليحيى بن عقيل: قلال هجر؟ قال: قلال هجر , قال: فأظن أن كل قلة تأخذ قربتين. قال ابن عدي: محمد هذا: هو محمد بن يحيى , يحدث عن يحيى بن أبي كثير ويحيى بن عقيل.
قالوا: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها لهم في حديث المعراج , وقال في سدرة المنتهى: " فإذا نبقها مثل قلال هجر " فدل على أنها معلومة عندهم. وقد قال يحيى بن آدم , ووكيع , وابن إسحاق: القلة: الجرة. وكذلك قال مجاهد: القلتان: الجرتان.
وأما كونها متساوية المقدار , فقد قال الخطابي في معالمه: قلال هجر: مشهورة الصنعة معلومة المقدار , لا تختلف كما لا تختلف المكاييل والصيعان. وهو حجة في اللغة. وأما تقديرها بقرب الحجاز , فقد قال ابن جريج: رأيت القلة تسع قربتين. وابن جريج حجازي , إنما أخبر عن قرب الحجاز , لا العراق ولا الشام ولا غيرهما.
وأما كونها لا تتفاوت , فقال الخطابي: القرب المنسوبة إلى البلدان المحذوة على مثال واحد , يريد أن قرب كل بلد على قدر واحد , لا تختلف. قال: والحد لا يقع بالمجهول.
وأما كون المفهوم حجة , فله طريقان: أحدهما: التخصيص.
والثاني: التعليل
أما التخصيص , فهو أن يقال: تخصيص الحكم بهذا الوصف والعدد لا بد له من فائدة , وهي نفي الحكم عما عدا المنطوق. وأما التعليل فيختص بمفهوم الصفة , وهو أن تعليق الحكم بهذا الوصف المناسب يدل على أنه علة له , فينتفي الحكم بانتفائها. فإن كان المفهوم مفهوم شرط فهو قوي , لأن المشروط عدم عند عدم شرطه وإلا لم يكن شرطا له.
وأما تقديمه على العموم , فلأن دلالته خاصة , فلو قدم العموم عليه بطلت دلالته جملة , وإذا خص به العموم عمل بالعموم فيما عدا المفهوم , والعمل بالدليلين أولى من إلغاء أحدهما , كيف وقد تأيد المفهوم بحديث الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب وإراقته , وبحديث النهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها عند القيام من نوم الليل؟.
وأما تقديمه على القياس الجلي فواضح , لأن القياس عموم معنوي , فإذا ثبت تقديمه على العموم اللفظي فتقديمه على المعنوي بطريق الأولى , ويكون خروج صور المفهوم من مقتضى القياس , كخروجها من مقتضى لفظ العموم.
وأما كون المفهوم عاما , فلأنه إنما دل على نفي الحكم عما عدا المنطوق بطريق سكوته عنه , ومعلوم أن نسبة المسكوت إلى جميع الصور واحدة , فلا يجوز نفي الحكم عن بعضها دون بعض للتحكم. ولا إثبات حكم المنطوق لها لإبطال فائدة التخصيص , فتعين بقيد عن جميعها.
وأما قولكم: إن العدد خرج مخرج التحديد: فلأنه عدد صدر من الشارع فكان تحديدا وتقييدا , كالخمسة الأوسق , والأربعين من الغنم , والخمس من الإبل , والثلاثين من البقر , وغير ذلك , إذ لا بد للعدد من فائدة , ولا فائدة له إلا التحديد.
وأما الجواب عن بعض المعارض , فليس معكم إلا عموم لفظي , أو عموم معنوي وهو القياس , وقد بينا تقديم المفهوم عليهما.
وأما جعل الشيء نصفا , فلأنه قد شك فيه , جعلناه نصفا احتياطيا , والظاهر أنه لا يكون أكثر منه , ويحتمل النصف فما دون , فتقديره بالنصف أولى.
وأما كون ما أوجب به الاحتياط يصير فرضا , فلأن هذا حقيقة الاحتياط , كإمساك جزء من الليل مع النهار , وغسل جزء من الرأس مع الوجه.
فهذا تمام تقرير هذا الحديث سندا ومتنا , ووجه الاحتجاج به.
قال المانعون من التحديد بالقلتين:
¥