واختلف العلماء في معنى الحديث. فقال بعضهم أن للام في الحديث هي "لام التعليل". أي إن كانت نيتها أن تفتن الرجال بريحها فهي آثمة، وإلا فلا. وقال البعض: بل هي "لام العاقبة"، كاللام في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزنا} [القصص: 8]. فالتقاط فرعون موسى ? كان عاقبة له. واحتجوا كذلك بما رواه الدارمي في سننه (2\ 362): أخبرنا أبو عاصم عن ثابت بن عمار عن غنيم بن قيس عن أبي موسى: «أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فيوجد ريحها فهي زانية وكل عين زان». فلم يأت هنا الحديث مع اللام. وأجيب على هذا بأن هذا الحديث موقوف غير مرفوع، لا حجة فيه. فلو صح إسناده لكان عِلّةً قادحة للحديث المرفوع!
وأحتج من أجاز للمرأة بأن تتطيب بما أخرج أبو داود في سننه (2\ 166): حدثنا الحسين بن الجنيد الدامغاني (ثقة) حدثنا أبو أسامة (حماد بن أسامة، ثقة ثبت) قال أخبرني عمر بن سويد الثقفي (جيد) قال حدثتني عائشة بنت طلحة (ثقة حُجة) أن عائشة أم المؤمنين ? حدثتها قالت: «كنا نخرج مع النبي ? إلى مكة، فنضمد جباهنا بِالسُّكِّ الْمُطَيَّبِ عند الإحرام. فإذا عرقت إحدانا، سال على وجهها. فيراه النبي ? فلا ينهاها».
وأجاب عنه من يرى تحريم تطيب المرأة لغير زوجها بأحاديث ضعيفة منها: ما أخرجه الترمذي (5\ 107) عن رجلٍ مجهولٍ من الطُفَاوَةَ لم يُسَمّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ?: «طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه. وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه». وهذا ضعيف لا أصل له. وأخرج كذلك من طريق قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين قال: قال لي النبي ?: «إن خير طيب الرجل ما ظهر ريحه وخفي لونه. وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه. ونهى عن ميثرة الأرجوان». وهذا الحديث منقطع ضعيف. ودلالة ضعف هذا الحديث قول الترمذي: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه». وقال المنذري: «الحسن لم يسمع من عمران بن حصين». وفي لفظ آخر أخرجه أبو داود (4\ 48) بنفس الإسناد الضعيف: «لا أركب الأرجوان، ولا ألبس المعصفر، ولا ألبس القميص المكفف بالحرير. ألا وطيب الرجال ريح لا لون له. ألا وطيب النساء لون لا ريح له».
وأخرج ابن خزيمة في صحيحه (3\ 92) والبيهقي في سننه (#5158) من طريق الأوزاعي، قال حدثني موسى بن يسار (مرسلاً) عن أبي هريرة قال: مرّت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف، فقال لها: «إلى أين تريدين يا أمَةَ الجبار؟» قالت: «إلى المسجد». قال: «تطيّبْتِ؟». قالت: «نعم». قال: «فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله ? يقول: "لا يقبل الله من امرأة صلاة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع فتغتسل"». قال أبو حاتم عن حديث ابن يسار هذا: «مرسَل، ولم يدرك أبا هريرة».
وأخرج النسائي في مجتباه (8\ 153) عن أبي هريرة مرفوعاً: «إذا خرجت المرأة إلى المسجد، فلتغتسل من الطيب كما تغتسل من الجنابة». وفيه رجلٌ مجهولٌ لم يُسمّ. ورُوِيَ مثله عند أحمد (2\ 444) وأبي داود (4\ 79) والبيهقي (3\ 133) من طريق عبيد بن أبي عبيد مولى لأبي رهم عن أبي هريرة مرفوعاً. وقد رجّح الدارقطني في علله (9\ 87) أن الحديث عائدٌ إلى عاصم بن عبيد الله، وهو مُنكَر الحديث. فالحديث إذاً ضعيفٌ بكل طرقه.
وبقي حديث جيّد الإسناد أخرجه أبو داود في سننه (1\ 155): عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله ? قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهُنّ تَفِلات». محمد بن عمرو جيّد الحديث، إلا عن أبي سلمة ففيه مقال. إلا أنه توبع في تاريخ البخاري (4\ 79). تفلات أي غير متعطّرات. وفرّق كثير من الفقهاء بين المرأة الشابة وغيرها.
ـ[محمد الأمين]ــــــــ[01 - 08 - 02, 09:18 ص]ـ
التبرج
الله يقول في حق القواعد من النساء {غير متبرجات بزينة} [النور 60]. فإذا كان هذا في حق اللاتي لا يرجون نكاحاً –لكبر سنهن- فهو أولى بالتحريم على اللواتي يردن النكاح (أي اللاتي لم يبلغن سن اليأس). والتبرج هو أن تخرج المرأة زينتها ومحاسنها أمام الرجال. وقيل أنه في هذا الموضع هو التبختر والتكسر.
وأخرج ابن جرير الطبري في تفسيره (22\ 4) والحاكم في مستدركه (2\ 598) بإسنادٍ قوّاه ابن حجر في الفتح (8\ 520): عن عكرمة عن بن عباس ? أنه قال: «كانت فيما بين نوح وإدريس ألف سنة. وإن بَطنَين من ولد آدم، كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل. وكان رجال الجبل صِباحاً، وفي النساء دَمامة. وكانت نساء السهل صِباحاً، وفي الرجال دمامة. وإن إبليس أتى رجُلاً من أهل السهل في صورة غلام. فأجر نفسه منه، فكان يخدمه. فاتخذ إبليس شيئاً من مثل الذي يزمر فيه الرُّعاء، فجاء فيه بصوتٍ لم يسمع الناس مثله. فبلغ ذلك من حَوله فانتابوهُم يسمعون إليه. واتخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة، فتتبرّج النساء للرجال، ويتزين الرجال لهن. وإن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم وهم في عيدهم ذلك، فرأى النساء وصَباحتهن. فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك. فتحولوا إليهن ونزلوا معهن، فظهرت الفاحشة فيهن. فذلك قول الله عز وجل: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}».
قال مجاهد: «كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية». وقال قتادة: «إذا خرجتن من بيوتكن، وكانت لهن مشية وتكسّرٌُ وتغنّج، فنهى الله تعالى عن ذلك». فكل ذلك دلّ أنه لا يحل للمرأة التبرج ولا التزين للخروج. وأما للزوج داخل البيت فمستحب.
¥