أن تذكر سوزان في كلامها "أديرة الصحارى". إنما هي إضافة منفلوطية تأثر فيها المنفلوطي ـ رحمه الله ـ بعقيدته وبيئته.))
((نسمع بطل روايتنا يبدى جزعه مما حدث ويقارنه بما يقع يوم القيامة: "هكذا تقوم الساعة، وتَرْجُف الراجفة، وتنتثر كواكب السماء في الفضاء، وتُطْوَى السماء طيَّ السجلّ للكتاب"، وهو كلام مأخوذ من مواضع متفرقة من القرآن الكريم: إما بنصه كما هو، وإما على وجه التقريب، وذلك في سورة "الأنبياء"/ 104، و"الروم"/ 12، و"النازعات"/ 6، و"الانفطار"/ 2. ومع هذا فلا وجود لشيء منه في الأصل الفرنسي. إنما هو زيادة زادها المنفلوطي على عادته في كثير من الأحيان في هذه الرواية بتأثير من ثقافته العربية الإسلامية)).
((وبالمثل لم يجد كاتبنا حرجا فى نقل كلام مؤلف الرواية على لسان البطل تزيينا للانتحار وتسويغا له وهجوما على من دانوه وإيهاما بأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يسخط على من يبخع نفسه بسبب اليأس أو الألم: ((لقد كذب الذين قالوا إن الانتحار ضعف وجبن، وما الضعف والجبن إلا الرضا بحياةٍ كلها آلام وأسقام فرارا من ساعة شدة مهما كابد المرء فيها من الغصص والأوجاع فهي ذاهبة، ولا رجعة فيها من بعد ذلك ... إنا لم نأت إلى هذا العالم باختيارنا، فلم لا نخرج منه متى شئنا؟ وإنا لم نكتب على أنفسنا عهدا بين يدي أحد أن نبقى فيه بقاء الدهر، فلم يُسَمَّى سعينا في الخلاص منه خيانة وغدرا أو كفرانا بنعمة الله ومنّته؟ إنها هفوة هفاها شيشرون الروماني في ذلك العهد القديم حينما قال: "إن كان لحامل الراية في الحرب حق في إلقائها عن عاتقه كان للإنسان حق في قتل نفسه"، وجاراه المجتمع الإنساني كله على هفوته هذه حتى اليوم دون أن يخطر على بال فرد من أفراده أن يقول له: إن لحامل الراية الحقَّ كلَّ الحق في إلقائها عن عاتقه إذا ثقل حملها عليه. وأعجب من ذلك أنهم لا يذكرون الانتحار إلا ذكروا اسم الله بجانبه وافتنّوا في تصوير غضبه ونقمته على المنتحرين، والله أعدل وأرحم من أن يبتلى عبدا من عبيده ببليّة لا تطيب معها الحياة ثم يأبى عليه إلا أن يرتبط بجانبها أبد الدهر ولا يبتغى لنفسه طريقا إلى الخلاص منها))
وسبب استغرابي هو أن المنفلوطي رجل مسلم يحب دينه، ومقتنع به كل الاقتناع، تبرهن على هذا كتاباته ومواقفه بما لا يدع مجالا للريب في ذلك. فما الذي جعله يبدو وكأنه يدافع عن الانتحار ويسوّغ الإقدام عليه والتعرض من ثَمَّ لنقمة الله؟ ثم هل ما نعرفه عن غضب الله على من يبخعون أنفسهم هو كلام من كلام البشر لا قيمة له كما يقول ستيفن؟ أم هل هو كلام الرسل عليهم السلام، أمرهم ربهم بتبليغه إلى الناس للالتزام بما فيه؟ قد يقول قائل: إن المنفلوطي لا يعبر هنا عن نفسه، بل عن الكاتب، أو إن شئنا قلنا: إنه إنما ينقل وجهة نظر ستيفن في حالته النفسية الراهنة ليس إلا. لكن اختيار المرء، كما نعرف، هو دليل على عقله، وقد اختار المنفلوطي تعريب هذه الرواية لأنها أعجبته، فكيف أعجبته، وفيها عن الانتحار هذا الكلام الذي لا يرضى عنه الله ورسوله؟ ثم إن المنفلوطي قد أضفى على منطق ستيفن الأعوج جاذبيةً قويةً من خلال صياغته الأسلوبية البارعة. خلاصة القول إن الرومانسية لا ينبغي أن تُغَشِّىَ على بصائرنا فنحلّل ما حرم الله.
ومعروف أن المنفلوطي كثيرا ما يتدخل في سياق السرد والوصف كي يدلى برأيه أو يحذف شيئا لا يرضى عنه ضميره أو يحوّر معنى لا يرى رأى المؤلف فيه، فلماذا لم يصنع هذا هنا، والأمر أخطر بكثير من المواقف الأخرى التي كان يتدخل فيها؟ لقد كان يمكنه أن يصنع هذا دون أن يفسد الفن ويخرج على متطلباته، وفى ذكائه وموهبته ما يسعفه بالمطلوب في تلك الحالة، كأن يلمح مثلا إلى أن هذه كانت فورة نفسية عنيفة من ستيفن غطت على عقله فجعلته لا يبصر مواقع أقدامه ولا يتحكم في فلتات لسانه، وذلك بدلا من أن يجند لها أسلوبه المتقد وحماسته النارية وكأنه يشاطر بطل الرواية فيما يرتئيه، مع أنه رحمه الله كتب أكثر من مرة يحمل على الانتحار حملة نارية: كما في مقالة له منشورة في الجزء الأول من كتاب "النظرات" تحت عنوان "الانتحار"، كلها تحذير من غضب الله ممن يبيعون سعادة آخرتهم بخسارتهم سعادة دنياهم فيخسرون السعادتين. وكما في مقالة له أخرى في الجزء الثاني من
¥