من هذه النتائج ثانيًا: أن علماء الغرب ـ للأسف ـ مهما بلغ من موضوعيتهم لم يكونوا بقادرين على التجرد الكامل من الهوى، فهم بشر ذوو نوازع وأغراض، يتبعون أوطانًا كان ـ ولا يزال ـ لها مآرب وأهداف، ولم يكن من اليسير الفصل بين الأهداف الاستعمارية والغايات العلمية، فكان هؤلاء العلماء منحازين ـ تلقائيًا ـ لفكرة بذاتها مؤداها فصل مصر تاريخًا وحضارة وثقافة وأصولاً عما يحيط بها من جيرانها .. العرب. ويبدو هذا الاتجاه واضحًا عند العلماء الإنكليز والفرنسيين بالذات؛ لأن دولتهما كانتا تستعمران الوطن العربي، وتعملان على تقسيمه وتفتيته لتحقيق سياسة: فرِّق تسُد مما هو معروف مشهور يثبت هذا أن ما يسمى المدرسة الألمانية كانت تتخذ مسارًا آخر مخالفًا يقول بوحدة تاريخ مصر والوطن العربي، والسبب ـ فيما نرى ـ راجع إلى أن ألمانيا لم تكن ذات مستعمرات في المنطقة فلم يكن لعلمائها غاية سياسية ترتدي لبوس العلم، وبذا كانت دراساتهم تنصب على حضارة مصر بجيرانها، واللغة المصرية بما أسموها اللغة السامية.

فإذا افترضنا حسن النية والبعد عن الهوى كانت ثالثة النتائج؛ أعني: جهل الغربيين باللغة العربية، أو لنقل جهل أغلب الغربيين بها، فالحق أن الكثرة الوافرة ممن اهتموا باللغة المصرية القديمة لم يكونوا يحسنون العربية، وإن ادَّعى بعضهم معرفته بها. وهم قد يتكلمون لغة التخاطب العربية المعاصرة، أو لغة الصحف، أو حتى اللهجة العامية الدارجة، لكنهم لم يكونوا ليحيطوا علمًا بلغة الشعر والجاهلي مثلاً، أو الأدب العربي القديم. فمن فعل ذلك من المستشرقين كان اهتمامه مقصورًا على الشعر والأدب بعيدًا عن اللغة المصرية، فلا تمكنه المقارنة واستخلاص النتائج.

فإذا وجدنا من اهتم بمقارنة المصرية بما يدعونه (اللغات السامية) كانت مقارنته مبنية على معرفته بالعبرية أصلاً، فإن أغلب هؤلاء من اليهود، وقد يعرجون على العربية إذا تبحروا فيها كما فعل (فرانز كاليس) أو (إمبير) مثلاً، ولكن دون أن تتيسر لهم الإحاطة الكاملة.

هناك أيضًا نتيجة أخرى لاستحواذ الأوروبيين على الدراسات المصرية تكمن في أنهم في مجال دراستهم للغة المصرية، وفكهم رموز الهيروغليفية وجهوها وجهة تتفق مع نمط كتابتهم وأصوات لغاتهم، فكان أن قلبوا أشكال هذه الرموز وعكسوها صورة ومسار كتابة، فالرموز الهيروغليفية تمضي عادة من اليمين إلى اليسار، وأحيانا من أعلى إلى أسفل، فكان لابدَّ لكي تسهل قراءتها من أن يحولوا مسار الكتابة لتصبح من اليسار إلى اليمين، وتبع هذا عكس صور الرموز بالطبع، ونحن إذن نقرأ الهيروغليفية مقلوبة، كما نقرأ التاريخ مقلوبًا هو الآخر.

ليس هذا فحسب، بل ثمَّة نتيجة خامسة نجدها في (النقحرة؛ أي: النقل الحرفي) للرموز الهيروغليفية إلى الحروف اللاتينية، إذ المعلوم أن المصرية تحتوي على أصوات لا توجد في اللغات الأوربية، من مثل العين والحاء والخاء والقاف، مما لا مقابل له في الألف باء اللاتينية، فكان كل باحث منهم يستنبط رمزًا من اللاتينية يضيف تحته نقطة أو خطًّا يشير به إلى الصوت المعنِيِّ، ومن هنا جاءت الاختلافات في العلامات كما يلاحظ القارئ من الجداول المخصصة لهذا الغاية.

ومضوا فافترضوا أن المصرية لا تحتوي على أصوات نجدها في العربية؛ مثل الضاد والطاء، فوضعوا بدلاً منها الدال أو التاء، ودرجت القراءات على هذه الصورة حتى رسخت، وهي قد لا تكون كذلك.

وزادوا على ذلك أن افترضوا تحريكًا، إذ المصرية كبقية العروبيات تعتمد الصوامت، وأكثروا من الصائت ( e) مساوقة للغات الأوروبية دون دليل على وجود هذه الصوت في المصرية، فيحرِّكون ( kmt) ـ وهو اسم لمصر ـ مثلاً ليقرأ ( kemet) ، ولم أجد من قرأ ( kamt) اتساقًا مع العربية.

والخلاصة أن علماء الغرب (أَوْرَبُوا) اللغة المصرية وحرفوها بشكل جعلها تبدو بعيدة كل البعد عن أخواتها اللغات العروبية، والعربية بصفة خاصة، منفصلة عما حولها، حتى أصبح العرب أنفسهم مقتنعين بأن هذه اللغة التي سرت تسميتها خطأً (الهيروغليفية) لا صلة لها بالعربية باعتبارها تمثِّل الحضارة الفرعونية الغربية، ولا جدال في أن وراء هذه الاتجاه غايات استعمارية مخططة آن لنا أن ننتبه إليها وإلى خطورتها على مستقبل الوطن العربي والأمة العربية كلها.

وأذكر هنا مثلاً آخذُه عمن يُنسب له فضل فك هذه الرموز أنه تعلم العربية وأتقنها إلى جانب القبطية؛ لكي يصل إلى فهم ألفاظ اللغة المصرية بعد قراءة رموزها، ثمَّ تأتي الكتابات التالية لتتجاهل هذه الحقيقة تمامًا وتغفل ذكرها .. حتى يحسب المرء أن (شامبليون) كان يُوحى إليه وحيًا دون سابق علم بلغة أخرى يقارن بها اللغة المصرية، وهذه صورة واحدة فقط من صورة التعمية وإخفاء الحقائق متعمدة ومدروسة. فماذا عن العلماء العرب؟

لا نضيف جديدًا إذا قلنا إن الباحثين العرب لم يكونوا سوى تلاميذ للعلماء الأجانب في ميدان الدراسات المصرية، هذه حقيقة بيِّنَةٌ بذاتها، ومن الطبيعي أن يتبع التلميذ خُطى الأستاذ، إلا في القليل النادر.وقد غطَّت الفكرة القائلة بانفصال الحضارة المصرية عما جاورها أغلب الدراسات والبحوث ... )).

وبعد هذا النقل الطويل أقول: إن الموضوع لا يزال بحاجة إلى تصنيف وترتيب أكثر مما هو عليه، لكني كما قلت لك سابقًا: إنما أردت أن يكون موضوع تصنيف الدراسات الجامعية في القرآن وعلومه مفهرسًا فهرسة موضوعية يسهل معها الوصول إلى الموضوعات، كما أنها قد تفتح أبواب بحوث بسبب تصنيفها، والله الموفق.

يتبع (حلقة أخرى إن شاء الله).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015