ـ[أبو الفداء]ــــــــ[21 عز وجلec 2010, 11:11 ص]ـ
الحمد لله وحده
أما بعد فإن من المغالطة بمكان أن يقال إن إعجاز القرءان في اللغة لا تقوم حجته على الأعاجم وأشباههم من أهل هذا الزمان لأنهم ليسوا من أهل ذاك اللسان. فإن مفهوم الإعجاز ومعناه في اللغة كما في الشرع إنما هو تحدي المخاطبين بالشيء بدعوى عجزهم عن الإتيان بمثله. فإن قلنا إن بعض هؤلاء المخاطبين ليس بمتأهل أصلا للاشتغال بتلك الصنعة التي جاء الإعجاز فيها، فإن هذا لا ينافي حقيقة الإعجاز في حقهم. فعندما نقول لبعض كفار هذا الزمان إن القرءان يتحداكم أن تأتوا بمثله، فلا نجاب بأن هذا التحدي باطل وبأن الإعجاز ليس حاصلا هنا لكون هؤلاء الكفار لا دراية لهم بلسان العرب أصلا! فإن وجه التحدي إثبات أنهم لا يأتون بمثله، وهذا واقع ولله الحمد!
ولكن قد يقال ههنا إن الإعجاز اللغوي كان أظهر وأقوى في حق المخاطبين الأوائل، منه في أي زمان يأتي بعد ذلك، أو بالأحرى كان هو الأصل في تحققه، بالنظر إلى أن بعد العهد عن اللسان الأصلي يورث – لا محالة - تخلفا عاما عن الوصول إلى درجة من الإجادة في ذلك اللسان تعادل أو تقارب ما كان عليه أهل ذلك اللسان نفسه في زمانه، وهذا كلام معتبر له وجاهته ولا شك، ولكنه ليس مؤداه إسقاط حجية الإعجاز اللغوي عن أهل الأزمان التالية لزمان التنزيل. وإنما يستفاد من تلك الحقيقة عند تصورها أنه إن كان الأولون قد عجزوا وتخلفوا عن الإتيان بما يناظر هذا الكتاب وهم أهل اللسان وأئمته وأساطينه الذين كانوا يتخاطبون به فيما بينهم وكانت سليقتهم منطبعة عليه وبه، فكيف بمن لم يأتهم ذلك اللسان إلا بالتعلم من الكتب؟ هؤلاء ولا شك يكونون أعجز – بالضرورة – وأبعد عن إصابة ذلك الأمر مهما علموا!
فإن قيل إن لازم هذا أن يتخلف معنى الإعجاز عن أهل هذه الأزمان المتأخرة لأنهم لا يملكون سبيلا للوصول إلى تلك الدرجة من الإتقان والإجادة لهذا اللسان التي بها يتصور من أحدهم أن يجيب عن ذلك التحدي، فلا يبقى لهذا الإعجاز من حجة، قلنا إن هذا ليس بصحيح، لأننا قد علمنا أن الأولين من المخاطبين بهذا اللسان – الذين هم أقدر الناس على سباكة اللفظ البليغ والمعنى المحكم به - قد عجزوا عن الإتيان بمثل هذا القرءان وعن معارضته في بلاغته وقوة معناه ومبناه، ومنهم من شهد بنفسه على ذلك! ونحن نرى بجلاء أنه لم يرد إلينا منهم شيء مما يرقى لتلك المعارضة، ولو وجد مثل هذا لطار به المشركون في زمانه كل مطار، ولتناقله الناس من أهل سائر الملل الأخرى وفي سائر الأمصار، لقوة الداعي لذلك عندهم كما لا يخفى! ولكنه لم يقع ولم يكن! فإذا كان ذلك كذلك، وثبت عجز أساطين ذلك اللسان – الذين كانوا يرتجلون المطولات ارتجالا – عن تلك المعارضة، عُلم أن عجز أهل الأزمنة التالية لذاك الزمان عن إجابة هذا التحدي واقع من باب أولى، وأن التحدي لم يسقط بذلك ولم يفقد حجيته، بل إنه قد أحكم وحسم أمره وأوثق وثاقه إلى قيام الساعة.
أرأيت – على سبيل التنزل - لو أن أحدا من الناس في هذا الزمان تمكن من أن يخرج علينا بما يرقى لهذه المعارضة بالفعل، في محاولة منه لإجابة ذلك التحدي، كما رأينا كثيرا من سفهاء النصارى والملاحدة يسلك ذلك الطريق، أفلا يكون في هذا إبطال لمعنى الإعجاز؟ بلى ولا شك! فإن كانوا في الحقيقة يعجزون عن هذا، وتزيد عجمتهم وتأخرهم في الزمان عن أهل اللسان من قوة الحواجز والموانع أمامهم دون بلوغ هذه الغاية، فكيف يقال إن هذا الإعجاز لا تقوم حجته عليهم؟ بل هي قائمة عليهم كما قامت على الذين من قبلهم، وإنما يكفينا قيامها على الذين من قبلهم للتدليل على قيامها عليهم كذلك من باب أولى. وكلما جاء قرن كان أهله أعجز عن ذلك من أهل القرون السابقة عليه، لزيادة العجمة وبعد العهد باللسان الأول، فإذا ثبت أن الأولين قد عجزوا – وهو ثابت لا مرية فيه – فهيهات لهؤلاء المتأخرين أن يأتوا بما عجز عنه الأولون في ذلك، ومن يأتي بعدهم أعجز منهم لا محالة، إلى قيام الساعة!!
¥