وكما غيب اركون ونصر حقيقة الوحي في تناولهما لآيات القرآن فقد غيّب الجابري حقيقة الوحي ومصدره الأصلي والأًصيل وارجعه الى جدلية ظروف مادية ووضعيات اجتماعية واقتصادية، رامياً من وراء ذلك الى انكار حقيقة دعوة الإسلام والأسماء الشرعية (الإسلام، النور .. إلخ)، فأخرج من مسمى "النور" أصله ومنبعه ومصدره ومشكاته الربانية واسعة الهداية والدلالة والتنوير والتمدين، وذلك في عملية بتر للحقيقة استخدم فيها الماركسية كأداة تأويلية ظناً منه انها ستقوم بالدور التعجيزي للإسلام، في حين نرى أدوات الجابري تتكسر وتتصدع أمام دوي التنزيل بل يدكّها الله دكّاً برفع الحقيقة فوق رؤوس تلاميذ يهود واسرائيل، أشباه كهنة التحريف والتزوير بل هم تلاميذ اليهود والنصارى (الحداثيون) على الحقيقة لا المجاز! ..

كان الجابري قد صرّح من قبل بأن الماركسية هي "اداة للعمل، مرشد للعمل يجب ان نسترشد بالنظرية العامة، بالمنهج" (التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، 1991، ط1، ص250)، ومن المعلوم ان كتابات الجابري الأولى تشهد على بُعد ماركسي واضح، كما ان "الثابت -يضيف محمود اسماعيل (العلماني) - تواجد أصداء التحليل الماركسي في كتاباته الأخيرة" (فكرة التاريخ بين الاسلام والماركسية، 1988، مكتبة مدبولي، ط1، ص95) فهنيئا لناقد العقل العربي بقصور الأداة وفساد التأويل والتلمذة على عقول ملاحدة برواسب استشراقية. (ملحوطة: في نقاش مع نصر حامد ابوزيد في ليدن، وكنا جلوسا في حفل لأصدقاء لي كان نصر ابوزيد يشرف على رسالاتهم الجامعية، احتفالا بحصولهم على درجة الماجستير، وهم اصلا من القسم الانجليزي من جامعة الازهر، قلت له ان الجابري متأثر بماركس والماركسية فأبدى امتعاضه وبدت عليه علامات الإستياء وكان جواره صديق له علماني فقال (بيقول ان الجابري ماركسي)، فقلت: متأثرا بالماركسية، فقال ولا متأثر خالص!)

والآن، وبعد أن عرضنا عمليات التلفيق والتفسير العلمانية للجابري، ننتقل إلى السؤال المهم الذي ينبغي طرحه في هذا السياق، وهو: أليست هذه (العلمانية) تمارس -على يد عبيدها- استراتيجية الحجب والاستبعاد والمخاتلة والخداع والتحوير الذي تتكلم عنه قراءات المذاهب الحديثة "المقلوبة"؟ ألم يكشف القرآن هذه الإستراتيجيات، وبأدق الأوصاف والتعبيرات كأوصاف الإخفاء والكتمان والتحريف واللبس والخوض والخداع والإبرام والتبديل والمكر واللغووالليّ؟ وليُّ المعنى كما قال ابن القيم في (الرسالة التبوكية) هو"تحريفه وتأويل اللفظ على خلاف مراد المتكلم به، وَتَحْمَالُه ما لم يُرِدْه، أويُسقط منه بعض ما أراد به، أونحوذلك من ليّ المعاني". وهوما كشفه طرابيشي في نصوص الجابري المبتسرة لأقول علماء وفلاسفة، ونكشف نحن ونفضح ليّه وابتساره لحقائق القرآن وآيات الفرقان.

يجب أن لا يغيب عن بالنا أن للنبوة في التفسير الماركسي والعلماني ارتباطات -مزيفة- بأوضاع و"وضعيات" مادية وتهيئة كهنوتية وسياسية وافرازات معرفية اسطورية زعموا انها صنعت الأنبياء وشكّلتهم وأخرجتهم.

دعوني أقدم مثالا هاما جدا يفتح القارئ على هدف واستراتيجية وتلاعب العلماني في الوقت الحالي، فكل ما قاله الجابري مما تقدم عرضه يلخصه خليل عبد الكريم في نص جامع كاشف لخيبة الرجاء العلماني في تطويق العقل المسلم وبزبالات عقول ضحلة فقدت الدليل والصواب معا، ففرعون مع كهنته عند العلماني خليل عبد الكريم صنع موسى وهيّأه للنبوة! -توفي خليل عبد الكريم عن عمر يناهز 73 عاما، وهوالمحامي الذي ترافع عن نصر أبوزيد في المحكمة المصرية في قضية "مفهوم النص"، والذي أشاد جابر عصفور بمرافعته في كتابه الصادر عن الهيئة العامة للثقافة (بأموال الشعب!!) بعنوان "ضد التعصب"! - (هنا سنزيح الستار عن أكاذيب جابر عصفور في دفاعه عن اخوانه) أما المسيح –يقول خليل عبد الكريم-:"فاتصل بالكهنة المصريين واغترف من علومهم الكثير ومنها الطب (إبراء الأكمه والأبرص) والسحر (إحياء الموتى) ... وهكذا ثبت بالحجة القاطعة أن موسى وعيسى دخلا بوابة التصنيع" وأطوار التنشئة و"سائر خطوات الصقل والصنفرة والإعداد والتأهيل والتحضير والتدريب والتمرين والتلميع .. إلخ") (فترة التكوين، الأعمال الكاملة لخليل عبد الكريم، دار مصر المحروسة، ط2، القاهرة، 2004، ص 250 و254 - 255).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015