اما ما أعرض عنه الجابري من الحقائق، وطالب بعزله، ورماه بالمضامين الإيديولوجية مع ما في هذه اللفظ عند امثاله من ايحاءات مادية فهوما ورد في تفسير ابن كثير: " لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد" وتفسير الطبري: " يقول: تهديهم به من ظلمات الضلالة والكفر، إلى نور الإيمان وضيائه، وتُبصر به أهل الجهل والعمى سُبل الرشاد والهدى"، ومعلوم ان الجابري قام في مشروعه -عن القرآن- بنقد علماء التفسير والسخرية منهم في الوقت الذي يعترف بأنه كلما تقدم في البحث اكتشف مدى عمق مجال جهله واتساعه (انظر كتابه" مدخل إلى القرآن ص 23) فقد رمى الجابري علماء التفسير بالفقر الهائل على مستوى "أدوات الإفهام" (انظر كتابه "فهم القرآن الكريم، القسم الأول ص 10 - 14) وهوالذي قال كمدخل للإعراض عن تفاسير العلماء قولة حق اراد بها باطل وهي أن القرآن يفسر بعضه بعضا، ومع ذلك فقد خالف هذه القاعدة الخبيرة والثمينة والتي لم يخترعها هووإنما حاول وضعها كلافتة بين يدي مشروعه لجلب الثقة به وليخدع عوام المثقفين! كما انه حشرها بين مُسلمات نظرياته المجلوبة من الغرب مثل نظرية: ان النص يجب ان نخضعه ليكون معاصرا لنا، فننظر اليه بأدوات التحليل المعاصرة "معطيات العصر! " التي تضع حقائق القرآن لنسبية معهود العرب ومعارفهم الخاطئة!!!
راح الجابري يهاجم العلماء وما قدموه من مفاهيم وتفسيرات وزعم ان الرجوع لأصالة النص هوالأصل، وهي حيلة جابرية لعزل التفاسير الإسلامية من طريق عمليات الحذف والبتر التي يقوم بها بتفكير وتقدير وترتيب دقيق للغاية، وذلك في نفس الوقت الذي يستعين بالمناهج الغربية المادية التي ترفض الوحي وتعزل الغيب، يقول الجابري:" المقصود بـ" الأصالة" هنا، على صعيد الفهم، هوهذا النص مجردا عن أنواع الفهم له، التي دونت في كتب التفسير باختلاف أنواعها واتجاهاتها. إن الأمر هنا يتعلق أساسا بعزل المضامين الإيديولوجية (!) لتلك الأنواع من الفهم أما المحتوى المعرفي في كتب التفسير فلأنها في الجملة، يكرر بعضها بعضا، فإنه يمكن الإستغناء عنها، والإقتصار على المؤلفات المؤسسة: مثل التفاسير التي ألفها علماء اللغة" (فهم القرآن الحكيم، القسم الأول ص 10).
ان السر هنا هوأن الجابري حاول أن يُدخل نصوص القرآن في دائرة الصراع المادي -الذي تتخيله المادية الجدلية والماركسية والعلمانية- وما يتولد عنه من نتائج مادية اوثقافات معرفية خاصة ببيئاتها المحيطة ومخيالها المحدد اوخيالها المحدود!، والتي إستُخدم لها –بزعم الجابري- وسائل تجييش معنوية تستعين بالثقافة المحيطة وتخدمها لحركتها الجديدة حتى يتم لها احراز النصر من غير عائق ديني أونفسي مع أن الإسلام رفض ركام المعارف الخاطئة التي رانت على القلوب وتلبست العقول وكلها كانت نتاج الثقافات المنحرفة المسيطرة، بل وبينت اشارات الوحي في مكة، في تنبيه مُعجز على أخطاء علمية ومعرفية وكهنوتية ومدنية ظلت منتشرة في الثقافات المحلية والعالمية، الدينية والوضعية التي لم تتأثر بالاسلام تأثيرا كبيرا، ذلك أن الظلمات هي مفاهيم وأوضاع وأعمال وأفعال ممتدة في التاريخ والجغرافيا والنفوس الجاهلة على السواء.
وقد أمكن للجابري افتتاح تفسيرات علمانية جديدة وحديثة بصورة تكاد تكون أولى ومتكاملة في هذا المجال فقد كتب تفسيرا كاملا مؤكدا به ان ساعة النقد اللاهوتي قد حانت، وسمى تفسيره "فهم القرآن الكريم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول" وهوالأقسام الثلاثة التي نشير اليها هنا، مع كتابه "مدخل للقرآن" الذي يعتبر مقدمة للمشروع هذا، وإن كان أركون ونصر ابوزيد قد قاما قبله بشرح آيات معينة تناولاها بالادوات المعرفية الغربية والنظريات اللغوية والتاريخية والاجتماعية والنفسية وغيرها، وقد أكثر منها أركون فيما ندر التعليق من نصر ابوزيد على الآيات فقد علق هذا الأخير على آيات قليلة كما في تعليقه على سورة العلق، وخصوصا الآية (3) منها "وربك الأكرم" بينما قام اركون في كتبه بالتعليق على نصوص من سورتي الكهف والتوبة وآيات من سور أخرى.
¥