وفي رواية عن أنس رضي الله عنه قال: كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي ظهر قميصه أربع رقاع، فقرأ: " وَفَاكِهَةً وَأَبًّا " [عبس: 31] فقال: فما الأبُّ؟ ثم قال: إن هذا لهم التكلف!! فما عليك أن لا تدريه؟ (2)

وهذا ابن عباس حَبْرُ الأمة، وترجمان القرآن – كما روى عنه ابن أبي مليكة – أنه سُئل عن آية لو سُئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها. (3)

وسأله رجل عن " يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ " [السجدة: 5] فقال له ابن عباس: فما " يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4]؟ فقال له الرجل: إنما سألتك لتحدثني!! فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم. (4)

وهذا جندب بن عبد الله رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه طلق بن حبيب فيسأله عن آية من القرآن، فقال: أُحَرِّجُ عليك إن كنت مسلما لَما قمت عني – أو قال -: أن تُجالسني. (5)

ولم يكن هذا الورع والتحرز مقتصراً على الصحابة رضي الله عنهم بل كان خُلُقاً لمن جاء بعدهم من أهل الرسوخ والتُّقى، فهذا سعيد بن المسيب رحمه الله وهو من خيار علما التابعين يُسئل عن تفسير آية من القرآن فبقول: إنَّا لا نقول في القرآن شيئا. (6)

وذكر عنه يحيى بن سعيد أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن. (7)

وسأله رجل عن آية من القرآن فقال: " لا تسألني عن القرآن ... " (8)

وقال يزيد بن أبي يزيد: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحرام والحلال وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع. (9)

وأخرج ابن جرير عن عبيد الله بن عمر قال: أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبيد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع. (10)

وقال هشام بن عروة بن الزبير: ما سمعت أبي يؤول آية من كتاب الله قط. (11)

وسأل محمد بن سيرين عَبِيْدَةَ السلماني عن آية من القرآن فأجابه بقوله: " ذهب الذين كانوا يعلمون فِيْمَ أُنْزِلَ القرآن. فاتق الله، وعليك بالسداد. (12)

وهذا إبراهيم النخعي يقول: كان أصحابنا – يعني أصحاب ابن مسعود كعلقمة والأسود وغيرهم من أصحاب ابن مسعود – يتقون التفسير ويهابونه. (13)

وقال الشعبي رحمه الله: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنَّها الرواية عن الله عز وجل. (14) وقال ابن مسروق: اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله. (15)

وهذا شيح الإسلام ابن تيمية مع تَبَحُّرِهِ في العلم وسعة اطلاعه حتى إنه إذا سُئل عن فن ظن الرائي والسامع أنه لا يَعرف غير ذلك الفن، وحَكَم بأن لا يعرفه أحد مثله، وله يد طُولَى في التفسير مع قوة عجيبة في استحضار الأدلة من الكتاب والسنة (16)، فمع هذا كله كان رحمه الله يقول: ربما طالعت الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأُمَرِّغ وجهي في التراب، وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلم إبراهيم فهمني. (17)

وهذا طرف يسير من شدة تحرزهم في الكلام على التفسير، وأما ما ورد عنهم من عظم الورع في الفتيا والجواب على المسائل الموجهة إليهم فهذا أمر يطول وصفه ولا تحتمله هذه المقدمة. (18)

وبعد هذا أقول: أين حال هؤلاء المجترئين على الله تعالى من حال هؤلاء السلف رضي الله عنهم؟

وأما الرد على مضمون تلك الورقة المشار إليها فمن ثمانية أوجه هي:

الأول: أن مدار هذه الفرية يعود إلى ما يسمونه بـ (الإعجاز العددي في القرآن).

وهذا النوع من الإعجاز باطل جملة وتفصيلا، إذ لم يكن معهوداً لدى المخاطبين بالقرآن من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الأمة بكتاب الله، وأبرها قلوباً، وأكثرها صواباً، فلم يُنقل عن أحد منهم بإسناد صحيح شيء من هذا القبيل إطلاقا، ولو كان هذا من العلم المُعتبر لكانوا أسبق الناس إليه، وأعلم الأمة به، وذلك أن هذا الأمر لا يتطلب آلات وتقنيات حتى يتمكن الإنسان من اكتشافه، وإنما هو مجرد إحصاء وعدد، وهذا أمرٌ لا يُعْوِزُ أحداً، وقد عَدَّ السلفُ جميع كلمات القرآن، وجميع حروفه، وعرفوا بذلك أعشاره،

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015