لكني سأعرج على جُمَلٍ تتأكّدُ بها جوانب الخلل والقصور في هذا التناول العصري التجديدي لمعاني القرآن الكريم:

في قوله تعالى: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء).

خلاصة ما يقوله أبو حسان هنا:

أولاً: أنه لم ينقل تفسير هذه الآية عن غير ابن عباس.

ثانياً: أن ابن عباس أخطأ في تفسير الآية ولم يُصب , وحيث لم ينقل تفسير الآية عن غيره فالنتيجة: أن السلف أخطأوا في تفسيرهم هذا.

مادامت المقدمة باطلة فالنتيجة باطلة , وما بُني على باطل فهو باطل.

ثالثاً: أن الصواب في تفسير الآية لم يُعرَف إلا في هذا العصر , وعلى يد دعاة الإعجاز العلمي.

رابعاً: وجوه خطأ ابن عباس في تفسير هذه الآية.

- أمّا الأمر الأوّل: (أنه لم يُنقل تفسير هذه الآية عن غير ابن عباس) فتقصير ظاهرٌ في البحث , ولا أستغربه فقد عوّدتنا أن تشبع هذه المسائل بحثاً!

فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن أبى الصلت الثقفى: أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية {ومن يرد الله أن يضله يجعل صدره ضيقا حرَجا} بنصب الراء وقرأها بعض من عنده من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {حرِجا} بالخفض، فقال عمر: ائتونى رجلاً من كنانة , واجعلوه راعياً , وليكن مدلجياً. فأتوا به فقال له عمر: يا فتى , ما الحرجة فيكم؟ قال: الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعية ولا وحشية ولا شىء.

فقال عمر: كذلك المنافق لا يصل إليه شىء من الخير.

إذا عُلِمَ هذا فباقي المثال لا قيمة له؛ لأنه مبنيٌ على تفرد ابن عباس بهذا المعنى.

- أمّا الأمر الثاني: (أن ابن عباس أخطأ في تفسير الآية ولم يُصب) , فهذا بحسب اجتهاد أبي حسان الذي لم يسبقه إليه سابقٌ , وما اقله أحد من العلماء تفسيراً للآية , وإنما هو رأيٌ رآه ثم حمل الآية عليه.

- وأمّا الأمر الثالث: (أن الصواب في تفسير الآية لم يُعرَف إلا في هذا العصر , وعلى يد دعاة الإعجاز العلمي) , فهذا من أعظم الجرأة على الله , وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم , وصحابته الكرام رضي الله عنهم , وعلى أمّة الإسلام طيلة تاريخها حتى هذا العصر. وقد بينا ذلك فيما سبق.

أمّا قولك:

والآية ليس معناها أن من أراد الله إضلاله فإنه يمتنع عليه الإيمان كامتناع الصعود إلى السماء على الإنسان – كما يقوله السلف - وإنما معناها أن من أراد الله إضلاله فإنه يجعل صدره ضيقا حرجا عن قبول الإيمان، فهو إذاً دائم الشعور بالضيق والحرج في صدره، وهذا الضيق سببه الكفر، وهذا الضيق الذي يشعر به في صدره يشبه الضيق الذي يحصل لمن يصعد في السماء، فإنه يجد صعوبة في التنفس مما يعكر عليه مزاجه.

فأسألك عنه سؤالان:

الأوّل: هل فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الآية؟

جوابك ولا شك: نعم. أمّا إن كان (لا) فلا نقاش لنا معك.

فمادام فهم رسول الله معناها؛ فهل هو هذا المعنى العصري الذي ذكرته؟

فإن كان جوابك (لا) فقد رددت على نفسك.

وإن كان (نعم , فهم رسول الله هذا المعنى العصري) فأثبت أوّلاً –ودون ذلك خرط القتاد-.

وإن وجدت وأثبتّ: فلماذا كتمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة؟ وإن كان بلَّغَه للصحابة , فلماذا كتموه ورضوا لابن عباس أن يفتري هذا المعنى الخاطئ على الأمة؟!

والسؤال الثاني: هل فهم الكفار معنى الآية؟

فإن قلت (نعم) فما هو المعنى الذي فهموه غير ما فهمه ابن عباس وعمر والصحابة؟

وإن قلت (لا , ما فهموا معنى الآية) فكيف يخاطبهم الله بما لا يفهمونه؟ وكيف تقوم عليهم الحجة به؟ وكيف يعذبهم الله على أمرٍ لا يستطيعونه؟

وإن قلت (ما فهموه هو هذا المعنى العصري) فأضحك الناس على عقلك وأثبت ذلك.

- وأمّا الأمر الرابع –وما أعجبه-: فهي وجوه خطأ تفسير ابن عباس وإصابة أبي حسان.

وأعجب ما فيه حين يبين خطأ ابن عباس في اللغة! ألم تجد غير ابن عباس لتخطئه في لغته؟!

إن من لا يعرف مذاهب العرب في كلامها , وأساليبهم في الخطاب التي نزل عليها القرآن ليس أهلاً أن يحاكمهم , فضلاً عن أن يُخَطِّئَهم في فهم لغة القرآن.

1 - (الآية جاءت بصيغة (في) لا بـ (إلى)).

ألم تسمع بالتضمين؟ ألم تعلم أن قول ابن عباس أفاد معنى (في) وزيادة؟

2 - (أن تفسير ابن عباس يستلزم تقديراً).

لا يا أخي , لا يستلزم تقديراً. أوليس مثلاً ذكره الله لحال الكافر؟

3 - (أن السياق يعارض قول ابن عباس).

بل يوافقه أشد الموافقة , واسمع ما أقول لك:

أليست الآية في المقابلة بين من شرح الله صدره بالإيمان , ومن ضيق صدره بالكفر والعصيان؟ بلى. فكيف هو شرح الصدر؟ فكذلك تضييقه. أليس شرح الصدر معنىً؟ فكذلك تضييقه.

4 - ((يصعد) بتشديد الصاد يفيد التدرج بالصعود وهذا المعنى لا يتأتى على قول ابن عباس).

(يَصَّعَّد , ويصَّاعَد , ويَصعَد) كلها بمعنىً , وقرأ بكلّ وجه منها جماعة من القراء.

5 - (أن قوله (يصعد) أصله يتصعد، والتصعد يعني وقوع التصعد حقيقة).

لا يلزم يا أخي , بل هو لبيان الجهد والمشقة التي تلحق من يفعل ذلك , قال عمر رض الله عنه: ما تصَعَّدني شيء ما تصَعَّدتني خُطبةُ النكاح.

وأنت بهذا المثال كفيتني الحديث عن أثر نزول القرآن بلسان الصحابة على فهمهم له , وعلى جهل كثير ممن بعدهم بالأساليب التي نزل بها القرآن , والتي كانت سليقة وطبعاً في ألسنتهم وعقولهم.

فكيف يظن عاقل أن من بعدهم أعلم منهم بلغتهم , بل ويخطئونهم فيها؟!

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015