وليس المقام هنا لنقد هذا المصطلح الفضفاض الذي وللأسف لم يُحرر حتى الآن، وصارت تبنى عليه مسائل علمية خطيرة، وحتى تعلم صدق ما أقول راجع كتب الفقه والعقائد وانظر في كثير من الإجماعات، تجد أن من يحكيها عالم واحد أو اثنين أحدهما نقل عن الآخر، وكلاهما عاشا في زمن بعيد عن الزمن الذي يُفترض أن يكون وقع فيه الإجماع وهو زمن الصحابة، ثم تأمل كيف علموا بهذا الإجماع؟ وكيف سُلم لهم هذا الإجماع؟ ولو أنهم رووا حديثاً لم يُقبل منهم إلا بسند متصل، فكيف قُبل منهم هذا الإجماع، بمجرد دعوى منهم؟!

وأنا لا أُنكر حجية الإجماع، وهو عندي ملزم ويحرم مخالفته، ولكن بشروطه المعتبرة والتي ذكرت بعضاً منها.

الحالة الثانية:

إذا لم يُنقل التفسير إلا عن أحدهم.

وهذا يعده البعض إجماعا سكوتياً، وأنا لا أُسلم لهذا المصطلح، ولا أعد هذه الحالة من الإجماع، بل هي تابعة للحالة الرابعة وستأتي.

الحالة الثالثة:

إذا لم ينقل في تفسير الآية شيء عنهم.

وهذا في حد ذاته يُعد مسوغاً للاجتهاد لمن جاء بعدهم.

الحالة الرابعة – وهي الأهم وهي محور نقاشنا -:

إذا اختلف الصحابة في تفسير الآية على قولين فأكثر، فهل يجوز إحداث قول بعدهم؟

هذه المسألة هي التي سنشبعها بحثاً إن شاء الله تعالى.

إذا اختلف الصحابة في تفسير الآية على قولين فأكثر، فهل يجوز إحداث قول بعدهم؟

رأي جمهور السلفيين: أن الصحابة إذا اختلفوا في التفسير فإنه لا يجوز إحداث قول بعدهم.

وهذا الرأي قال به جمع منهم، كالإمام أحمد، والآجري، وابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، وابن عبد الهادي، وغيرهم، وقد أطنب ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين - كعادته حينما ينتصر لفكرة معينة - في تقرير هذا المذهب وحشد الأدلة له، وما ذكره أخي أبو بيان يُعد بعضاً منه ولم يزد شيئاً.

وكل الذي ذكره ابن القيم وغيره ممن انتصر لهذا المذهب لا يُعد دليلاً بل هي تعليلات وانطباعات وتهويل وحشد لقصد نصر الفكرة لاغير.

والذي دعاهم لنصرة هذا المذهب هو ما حدث من آراء عقدية استجدت في الساحة الإسلامية بعد جيل الصحابة رضوان الله عليهم، فكان من ردة الفعل لهذه الآراء أن وضعت قواعد مغرقة في التقليد حتى يتمكنوا من غلق الباب عن كل رأي جديد، ولعل أقرب مثال لذلك نفي ابن تيمية للمجاز وكذا بعض تلاميذه، وفعلهم هذا مكابرة ومصادمة لحقيقة لا يمكن إنكارها، وإنما لجأوا للنفي حتى يغلقوا الباب على خصومهم ممن يرى تأويل الصفات متذرعاً بالمجاز اللغوي، فلاحظ كيف كابر منكروا المنجاز الحقيقة نصرة لمذهبهم.

وتأمل كلام الإمام أحمد – رحمه الله – بخصوص هذه المسألة تجد عين ما قلته، فإنه حينما سئل: هل لرجل أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا؟ فأجاب رحمه الله: "هذا قول خبيث، قول أهل البدع، لا ينبغي لأحد أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا".

فانظر كيف تم ربط المسألة بأهل البدع ويقصد بهم أرباب المقالات التي استجدت في الساحة الإسلامية.

هذا إن صح النقل عن الإمام أحمد، مع أني استبعد ثبوت ذلك عنه، حيث إن إمامته ومكانته التي حباه الله إياها تأبى صدور ذلك منه.

إن محاولة هؤلاء حشر الأمة بأقوال الصحابة وتحريم الخروج عليها هو من باب غلق الباب عن كل جديد، ومع الأسف لم يستطيعوا ولم يحسنوا لغة الحوار والمناظرة مع خصومهم، فلجأوا إلى لغة الإقصاء والمنع من محاورتهم وأفتوا بتحريم ذلك، وهل الحقيقة تُحجب بمجرد المنع؟

إن الدليل الذي يصمد أمام النقد هو الدليل الذي يستحق الإشادة ويُسلم له، وهذا لا يكون إلا من الكتاب والسنة بحيث يكون واضح الدلالة في المقصود، وكذا الدليل المعلل على أصول لا تقبل النقض.

إذا علمنا هذا فإن كل ما يذكره هؤلاء من تعليل لنصرة هذه الفكرة - أعني أصل مسألتنا - فإنه لايثبت أمام النقد العلمي، لأن الفكرة أُصلت أولاً بلا دليل ثم تكلفوا الأدلة لنصرتها ولتمريرها على العامة بحيث لا يُقبل بعد ذلك أي رأي يستجد من أي فرقة مهما كان في القوة.

وهذا هو أساس المشكلة برمتها.

وليتهم وقفوا عند هذا الحد وحسب، ولكنهم لجأوا أيضاً إلى أسلوب الإرهاب الفكري، فأصدروا الفتاوى المغرقة بالتطرف والمحذرة من كل قول جديد، حتى وصل الحال ببعضهم أن أصدروا فتاوى التكفير في حق كل رأي يخالف بزعمهم رأي السلف، وكنموذج على ذلك انظر الفتاوى الصادرة من بعض علماء الحنابلة في حكم من يقول القرآن مخلوق، تجد نسبة منها مغرقة بالتطرف حتى وصل الحال ببعضهم أن كفروا كل من يقول بخلق القرآن وإهدار دمه، وكتب العقائد والتاريخ شاهدة على ما أقول ومتاح قراءتها لكل من يريد الاطلاع على هذه الحقائق.

ومع الأسف فإن أبناء هذا العصر انساقوا خلف ما تم تأصيله في عصور قديمة ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث في أسباب هذا التأصيل ومدى موافقته للحقيقة، بل زاد الطين بله أن صرنا نقرر كل ما قالوه ونتعامل به مع واقعنا على أنه حقيقة مسلمة ولا يجوز أن نتعداها، مع أن الواقع اختلف جذريا فلم تعد كثير من تلك الأزمات الفكرية موجودة الآن، بل استجدت أزمات أخرى نحن بحاجة إلى تنزيل نصوص الوحيين عليها بأصول جديدة مغايرة كل المغايرة لتلك الأصول التي ولدت في حقبة معينة لأسباب معينة، وكان الأولى بها أن تموت مع أصحابها كما ماتوا.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015