انتظرت ارتفاع الشمس وحلول الضحى، لينتشر الدفء في أوصال المدينة، فينعكس على شقتنا التي كُتِبَ عليها ألا تعانق الشمس طول السنة، خرجت أريد أن أصلي الجمعة في جامع عبد الرحمن الكواكبي ليس بعيدا عن منطقتنا (الإعلام) التي نسكن بجوارها نحن، كنت قد مررت به في الصيف، وهو أقرب إلى شقة مجيد رشيد وأخيه الحاج توفيق اللذين دعوانا لغداء عندهم اليوم، وبينما أنا في طريقي إلى الجامع إذا بشارع مزدان بالعمران، من جانب تصطف عنده بنايات عالية والجانب الآخر حدائق وتتخللها بنايات، ومع ازدحام الشارع في وسطه إلا أنه كان هادئا إلا من همسات ما هي إلا همسات مجروحة جرحتها الحرب، اقتربت أكثر فإذا بالحدائق والبنايات مستشفى أو مصح أو دار نقاهة قد خُصِّصَ لأولئك الذين أصيبوا في الحرب من جنود الجيش المصري وأفراده، وهزني الموقف وقد قال العرب قديماً: (فما راءٍ كمن سمعا)، فكل ما يمكن أن يُنْقَلَ عن الحرب وبطولاتها هو شيء صغير بالنسبة للمعاناة التي يتجرعها من ينخرطون في الحرب، شباب، كلهم شباب، وهل تقذف الأمة في الحرب إلا الشباب، هم ما بين مصاب في الرأس أو الساعد أو اليدين، هذا قد ركب عربة صغيرة يحركها بيده، بل أكثرهم يستعملون هذه العربات التي نراها مع الذين يفقدون القدرة على المشي، شباب قد شوهتهم الحرب، وكم هناك من شباب قد أكلتهم الحرب بلهيبها، ثم تذهب كل تلك الدماء هدراً، اليوم في مؤتمر جنيف الذي يسمونه مؤتمر السلام بعد أن توقفت الحرب على أمل تحقيق التسوية كانت الجهود تبذل لعقد هذا المؤتمر الذي سعت إليه مصر ولحقها الأردن ولكن سوريا استحيت وتأخرت تأمل الفرصة المناسبة، ومهما جاءنا به مؤتمر جنيف الذي يرأسه أكبر المتحمسين لليهود كيسنجر اليهودي الأمريكي وغروميكو الشيوعي اليهودي السوفيتي، مهما جاءنا به هذا المؤتمر من حلول مصطنعة للسلام فإن العرب والمسلمين لم ينسوا هذه الدماء التي ذهبت هدراً، ولن ينسوها حتى تتحرر فلسطين ويُمَرَّغَ علم إسرائيل بالتراب ويقتل محاربو اليهود ويجلوا عن الديار! ولا ندري ما يُخَبِّئُ المستقبل من أحداث .. بعد الظهر ذهبت مع الحاج توفيق والأخ خليل لزيارة المعرض الذي أقيم لعرض معدات الجيش الإسرائيلي التي غنمتها مصر في الحرب والذي يسمونه (معرض الغنائم): دبابات ومدافع وعربات وسيارات، وحطام طائرات وطائرات تجسس بدون طيار، وألغام وقنابل لم تفجر وهي تبعث في النفس الهلع لما يمكن أن تحله من دمار إذا انفجرت، ومعظمها صناعة أمريكية!
قلق من السكن
السبت 22 كانون الأول 1973م = 28 ذو القعدة 1393هـ
هناك أمور قد تستطيع أن تقنع نفسك بصوابها أو بإمكانية احتمالها أو أنها خير من غيرها، ولكن تظل أحياناً هذه القناعة عرضة للزعزعة، أنا منذ أن سكنت في هذه الشقة مع الأخ خليل فإني قد تخوفت من نتائج هذا السكن، أي أني كنت أخشى على المستقبل ومن المستقبل، وحملت نفسي على الاقتناع بهذا السكن، ولكن كلما يمر يوم وأذهب إلى الكلية أو إلى المكتبة تتجدد المرارة والمشكلة، وبدأت أسقط هذه البواعث على كل شيء، محاولاً أن أقنع نفسي الانتقال من هذه الشقة، فالمتاعب لا تحصى تخرج قبل ساعة وتصل بعد ساعة على الأقل، وتصل البيت وأنت مُنْهَدُّ القوى لا تقوى على عمل شيء، البعد عن الكلية والمكتبة ثم هذه الزيادة في النفقات، أنا إلى اليوم أنفقت في الأمور العادية ما لا يقل عن سبعين جنيها مصرياً .. ولما ينقض الشهر، وكنت قد عرفت رأي الأخ خليل في مكان السكن وطريقة المعيشة معه بعد أن سكنت معه، ليس فيه شيء لا يرتاح إليه الإنسان إلا هذا الأمر وهو مهم بالنسبة لي، منطقة هادئة جيدة لا يقال عنها إنها شعبية وهو أمر مهم، إضافة إلى هذا فإن نفقات البيت ترتفع ارتفاعاً غير محتمل، وعلى تقديري فهي لن تقل عن العشرين جنيهاً، وعشرين للسكن وملحقاته من بَوَّاب إلى شغالة، وعشرة جنيهات نفقات مواصلات ومتطلبات أخرى على الأقل، فلن يقل المصروف الشهري إذن عن خمسين جنيهاً بل ربما يزيد إلى الستين، ومالي ولهذا البذخ الذي لا يجلب منفعة، كان اليوم وفي آخر الليل حديث مع الأخ خليل حول الموضوع وإمكانية التحول، ولكنه دائما يضع هذه المقدمة: لا أسكن في المنيرة، منطقة شعبية، والأخ خليل لديه قدرة مالية
¥