قضيت الليل في بيت العم مصطفى في بغداد، وفي الصباح ذهبت إلى مديرية السفر والجنسية لأكمل تأشير الجواز، ورغم شدة الازدحام، فهو أشد من ازدحام مساء الأمس، فقد تسلمت الجواز كاملاً قبل العاشرة، وخرجت وقلبي يخفق لو كنت مع هؤلاء الذاهبين إلى الديار المباركة، وأسرعت إلى سفارة مصر كي أحصل على التأشيرة، وهناك قال لي الموظف لابد من مضي 24 ساعة على استلام الجواز، فشرحت له أني من خارج العاصمة وأني أريد أن أكمل المعاملة حتى أعود إلى الأهل أياماً، فاقتنع وقال لي انتظر بعض الوقت، ولم تمض إلا برهة لا تتجاوز نصف ساعة حتى استلمت الجواز وعليه تأشيرة الدخول، ومن هناك ذهبت إلى مكتب الخطوط الجوية العراقية لأحجز مكاناً في الطائرة المغادرة فإذا المواعيد الاثنين والأربعاء، فاستعجلت الأمر وقلت الأربعاء، ولو أني قد ندمت على ذلك، ماذا لو تأخرت إلى يوم الاثنين بعد الأربعاء، مضى الأمر وسجلت يوم سفري الأربعاء الآتي إن شاء الله، وكانت الأجور ذهاباً وإياباً (32) ديناراً و (800) فلس، وهي مخفضة خمسين بالمئة، استناداً إلى ما يسمى بأجور الشباب، وهي نفس أجور الطلاب، ولكني أنفقت عشرين ديناراً في تأشيرة الجواز، ومن هناك ذهبت إلى مديرية صحة العاصمة حيث أخذت شهادة الصحة العالمية، ولم يبق لي إلا أن أذهب إلى سوق الكتب لأحاول شراء كتاب كان قد أوصاني بشرائه الدكتور أمين، وهو خزانة الأدب للبغدادي، فوجدت نسخة واحدة وكان طلب صاحبها عشرة دنانير، فلم أشترها .. ! سافرت إلى بيجي وأنا أفكر في زيارة الأصدقاء والإخوان والأقرباء، ولكن أصبح الوقت ضيقاً، وعليَّ أن أعود لأقضي هذه السويعات عند الأهل الذين خفقت قلوبهم كما خفق قلبي حين علموا قرب موعد سفري، وأنا أحس بثقل الأيام الآتيات، وأتوجه إلى الله أن يخفف علي أهوالها وصعابها.
السفر إلى بغداد
الثلاثاء 27 تشرين الثاني 1973م = 3 ذو القعدة 1393هـ
كنت أروح وأجيء في البيت وخارج البيت، وربما كنت أبدو طبيعياً في الظاهر، أي أن سفري إلى مصر الذي سيكون غداً إن شاء الله كأنه طبيعي، وأني غير مفكر في مستقبل هذا الفراق الذي ربما يطول ويطول، وكنت أرقب وجوه الأهل وإذا بهم يرقبون حركاتي أيضا وكأنهم يشيعونني منذ اليوم، وهم يفكرون في هذا المغادر ما بين مغتبط لسفره متطلع إلى ما سيجنيه من ثمرة وآخر مشفق حزين لهذا السفر، رغم الحب والدعاء له بكل خير، والوالدة خصوصاً تنظر إلي وأشعر أنها قد تفكر في أني قد لا أعود وأنها لن تراني مرة أخرى، وكثيراً ما أخذ صوتها يثقل وهي تحاول نقش الذكريات في آخر اللحظات، والدي لم أسمع منه منذ أن درست إلا التشجيع والدعاء بالسلامة، إخوتي، أخواتي، كل من في البيت، وأنا أيضاً كنت أحاول أن أحفر الذكريات بعمق، ولكني أرى الساعات تمر بانتظام والليل يتقدم ويخيم بظلامه على النفوس، وقضيت الليل في سمر مع الجميع، العم سليمان الحمد كان يحضر كل ليلة إلى دارنا يقضي أول الليل مع الوالد ومن حضر مع الحاضرين، وأخذت الأضواء تنطفئ في أطراف البيت ويحل الظلام، وأخذ هذا الظلام يتسرب إلى داخلي، ويقعدني وأنا وحيد في الغرفة، الوالد ينام في غرفة الضيوف الكبيرة وأنا أنام في الثانية الصغيرة، وجلست في ظل ذلك الظلام الداخلي والخارجي، أفكر وأبعد بالتفكير، وأخذت الأفكار السوداء التي يوسوس بها الشيطان إلى النفوس أحياناً، تقفز إلى السطح وأحاديث الموت والحياة هي الأخرى ظهرت، وأخذت أتلمس الجدران بيدي وبعيوني أتفحصها وأتتبع منحنياتها، كيف سأتذكر كل هذا وأنا بعيد، كيف سيكون موقفي وأنا وحيد هناك في البلاد البعيدة؟! ولكن كلما أتذكر ما صارت إليه أموري في العراق وقلق المستقبل كل ذلك يحفزني إلى احتمال كل ما سيكون من مصاعب، الوالدة تحدثني أنها لم تهنأ بنوم منذ يومين .. ! على كل حال فإن كل من في البيت يود لي السفر للدراسة والكل يدعو بالعودة بسلام وبالنتيجة الجيدة، ليس من اليسير أن أنسى ذلك البيت الذي عشت فيه حياتي آمالي وأحلامي وذكرياتي، أبي أمي إخوتي أخواتي الأطفال أبناء إخواني، إنه جزء من كياني.
الوصول إلى القاهرة
الأربعاء 28 تشرين الثاني 1973م = 4 ذو القعدة 1393هـ
¥