السبر والتقسيم

ـ[أبو سعد الغامدي]ــــــــ[18 Jan 2010, 12:56 ص]ـ

يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى:

المسألة الأولى:

اعلم أن هذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم تكرر وروده في القرآن العظيم، وقد ذكرنا الآن مثالين لذلك أحدهما في «البقرة» والثاني في «مريم» كما أوضحناه آنفاً. وذكر السيوطي في الإتقان في كلام على جدل القرآن مثالاً واحداً للسبر والتقسيم ومضمون المثال الذي ذكره باختصار هو ما تضمنه قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} [الأنعام: 143] الآيتين، فكأن الله يقول للذين حرموا بعض الإناث كالبحائر والسوائب دون بعضها، وحرموا بعض الذكور كالحامي دون بعضها:

لا يخلوا تحريمكم لبعض ما ذكر دون بعضه من أن يكون معللاً بعلة معقولة أو تعبدياً.

وعلى أنه معلل بعلة فإما أن تكون العلة في المحرم من الإناث الأنوثة، ومن الذكور الذكورة.

أو تكون العلة فيهما معاً التخلق في الرحم، واشتمالها عليهما.

هذه هي أقسام التي يمكن ادعاء إناطة الحكم بها. ثم بعد حصر الأوصاف بهذا التقسيم نرجع إلى سبر الأقسام المذكورة.

أي اختبارها ليتميز الصحيح من الباطل فنجدها كلها باطلة بالسبر الصحيح، لأن كون العلة الذكورة يقتضي تحريم كل ذكر وأنتم تحلون بعض الذكور، فدل ذلك على بطلان التعليل بالذكورة لقادح النقص الذي هو عدم الاطراد.

وكون العلة الأنثوية يقتضي تحريم كل أنثى كما ذكرنا فيما قبله.

وكون العلة اشتمال الرحم عليهما يقتضي تحريم الجمع. وإلى هذا الإبطال أشار تعالى بقوله: {قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين} [الأنعام: 143] أي فلو كانت العلة الذكورة حرم كل ذكر. ولو كانت الأنوثة لحرمت كل أنثى. ولو كانت اشتمال الرحم عليهما لحرم الجميع. وكون ذلك تعبدياً يقتضي أن الله وصاكم به لا واسطة. إذ لم يأتكم منه رسول بذلك. فدل ذلك على أنه باطل أيضاً، وأشار تعالى إلى بطلانه بقوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا} [الأنعام: 144] ثم بين أن ذلك التحريم بغير دليل من أشنع الظلم، وأنه كذب مفترى وإضلال بقوله:

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [الأنعام: 144] ثم أكد عدم التحريم في ذلك بقوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [الأنعام: 145].

والحاصل - أن إبطال جميع الأوصاف المذكورة دليل على بطلان الحكم المذكور كما أوضحنا.

ومن أمثلة السبر والتقسيم في القرآن قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون} [الطور: 35] فكأنه تعالى يقول: لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح.

الأولى - أن يكونوا خُلقوا من غير شيء أي بدون خالق أصلاً.

الثانية - أن يكونوا خلقوا أنفسهم.

الثالثة - أن يكون خلقهم خالق غير أنفسهم.

ولا شك أن القسمين الأولين باطلان، وبطلانهما ضروري كما ترى، فلا حاجة إلى إقامة الدليل عليه لوضوحه.

والثالث - هو الحق الذي لا شك فيه، وهو جلا وعلا خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه وحده جل وعلا.

واعلم أن المنطقيين والأصوليين والجدليين كل منه يستعملون هذ الدليل في غرض ليس هو غرض الآخر من استعمال، إلا أن استعماله عند الجدليين أعم من استعماله عند المنطقيين والأصولين.

المسألة الثانية

اعلم أن مقصود الجدلين من هذا الدليل معرفة الصحيح والباطل من أوصاف محل النزاع، وهو عندهم يتركب من أمرين:

الأول - حصر أوصاف المحل.

والثاني - إبطال الباطل منها وتصحيح مطلقاً، وقد تكون باطلة كلها فيتحقق بطلان الحكم المستند إليها، كآية {قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ} [الأنعام: 143] المتقدمة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015