( r) كما تبرأ الله تعالى منه حسب ما يقتضي هذا المعنى الفاسد الذي كان سببه الإخلال بالنحو؛ فأمر عمر أو علي الأرجح – أبا الأسود الدولي فوضح النحو؛ يقول الإمام الذهبي: (أمر علي أبا الأسود بوضع شيء في النحو لما سمع اللحن؛ فأراه أبو الأسود ما وضع؛ فقال: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت؛ فمن ثم سمى النحو نحواً) وتذكر بعض الروايات أن عليا بن طالب نفسه هو الذي وضع أصول النحو فأعطى أبا الأسود هذه الأصول وعمل أبو الأسود بعده عليها وقد نشأ علم النحو لأسباب واقعية في حياة الناس يقول ابن خلدون: (لما جاء الإسلام وفارق العرب الحجاز لطلب الملك، الذي كان في أيدي الأمم والدول، وخالطوا العجم، تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمتعربين من العجم؛ والسمع أبو الملكات اللسانية، ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها، لجنوحها إليه باعتياد السمع، وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأساً ويطول العهد بها، فينغلق القرآن والحديث على المفهوم، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة، شبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه)

أما علم اللغة فيمكن أن يتعلق به القرآن بكل تفاصيله، وقد نشأ هذا العلم لخدمة القرآن أيضا؛ يقول ابن خلدون (لما فسدت ملكة اللسان العربي، في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب، واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم، حتى تأذى الفساد إلى موضوعات الألفاظ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم، ميلاً مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية، فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين، خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث، فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين)

وتنقسم العلوم جميعا من حيث علاقتها بالقرآن إلى الآتي:

- علوم تدور حول النص

- علوم تعلقت بالواقع، ومعلوم أن القرآن قد تعلق بالواقع أشد ما يكون التعلق،ومن هنا جاءت علاقة القرآن بالعلوم، ومعلوم أن هذا الواقع ينقسم إلى قسمين:

1 - واقع كوني.

2 - واقع اجتماعي وإنساني.

ويتميز الواقع الكوني عن ذلك الإنساني بأنه دقيق الانتظام والانضباط شديد التقيّد بالسنن والقوانين، كما أن نظامه ثابت غير معقّد مقارنة بالواقع الاجتماعي والإنساني.

ومعلوم أن الإنسان مهيأ لإدراك الواقع الكوني بصورة عامة بحكم طبيعة تكوينه وإعداده للخلافة في الأرض؛ وقد زوّده الله تعالى بوسائل إدراك المعرفة كالسمع والبصر والفؤاد؛ قال تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) ولم يكن هذا الإنسان عند إنشائه يعلم من أمر هذا الكون شيئاً ثم زوّده الله تعالى بتلك الوسائل فأدرك؛ قال تعالى: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ) ولهذا ركّز القرآن على هداية البشر أكثر مما ركّز على الجزئيات الطبيعية؛ قال تعالى عن القرآن: (هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ) وقال: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ) وقال: (إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) وكانت مادة القرآن هي الإنسان وتصوره واعتقاده وسلوكه وأعماله وروابطه؛ وقد عالج القرآن قضايا الإنسان أكثر مما عالج الجزئيات الطبيعية ونحوها.

وهذه العلوم الاجتماعية والإنسانية قد يذكر القرآن في بعض الأحيان تفاصيل قضاياها بصورة مباشرة، ولما كانت هذه العلوم – في إطارها الغربي - قد احتلت المكانة الرفيعة كان يحتلها الوحي في توجيه الإنسان وإرشاده فلا بد أن تتناول القضايا ذاتها التي تناولها القرآن وإن اختلفت الصورة والطريقة، والقرآن تناول القضايا التي تتعلق بالإنسان والمجتمع البشري، ولكن هذا التناول قد يكون بالتفاصيل أحيانا وبالإجمال أحيانا وبالمقصد أحيانا.

أما ذكر تفاصيل العلوم الطبيعية في القرآن فإنه يكون في الغالب بصورة أقل من تفاصيل تلك العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ بل إن القرآن قد يشير إلى تفاصيل العلوم الطبيعية وحقائق الكون ومشاهده إشارات عابرة، وذكر تفاصيل العلوم الطبيعية في القرآن لا يكون مقصودا لذاته؛ بل للعبرة والتنبيه على قدرة الله ودلائل وحدانيته، ولعل عدم ذكر تفاصيل العلوم الطبيعية في القرآن أنها في مقدور البشر والله قد ركب فيهم من وسائل إدراكها ومعرفتها ما ركب، والكون كتاب مفتوح أمام الإنسانية لا يمنعها مانع عن السير في أرجائه والنظر في أقطاره، والقرآن إذا ذكر هذه الأمور وتعرض لها فإنما يذكرها في عبارات سريعة وإشارات عابرة، إذ هي ليست مقصوده الأساس ولا غرضه الذي يراد، والله تعالى يذكر هذه الأمور حيث يريد ويتعرض لها حين يشاء، ولا يوردها حين يشاء الناس، وقد سأل الصحابة النبي ( r) عن بعض الأمور المتعلقة بالعلوم الطبيعية؛ فقالوا: (ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم لم يزل يكبر حتى يستدير) فحوّلهم الله تعالى إلى أمر آخر أكثر تعلقاً بالتكاليف والأحكام المطلوبة منهم؛ فقال (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) ثم قال في السياق نفسه: (وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد أبواب العلم (البحر المديد 1/ 240)، أي: اتوا هذا الأمر من بابه؛ فحوّل - بأسلوب الحكيم - الإجابة من العلم الطبيعي إلى العلم الشرعي ثم أمرهم بطلب العلم الطبيعي؛ إذ إن كل مطلوب من المطالب المهمة ينبغي أن يؤتى من بابه؛ وهذا يقتضي معرفة الأسباب والوسائل.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015