أمّا الآية الثانية فقد جاءت في سياق طلب المشركين لمعجزة، مثلما أُوتي به المرسلون السابقون من المعجزات. وهو بيان حجاجي يُصوِّر فيه الله سبحانه وتعالى عناد المشركين وكفرهم، حتى ولو أعطاهم عزّ وجلّ ما يقترحون لن يؤمنوا، والحجّة تتعلّق بالأمم السابقة التي مُنحت ما أرادت ولكّنها لم تؤمن. والنتيجة ههنا أنّه حتّى ولو أُعطي الكفّار ما أرادوا فإنّهم لن يؤمنوا، ولكن من رحمته عزّ وجلّ "أنّه منع عنهم ما اقترحوا من معجزات حتّى لا يُهلكهم كما أهلك الأمم المكذّبة قبلهم، ولو أرادوا الإيمان لاكتفوا بالمعجزات التي أيّد بها رسول الله (ابتداءً، وأوضحها دلالة القرآن الكريم" (61). فالبنية الحجاجيّة ارتبطت ههنا بالتمثيل بالأمم السابقة التي كان لها ما أرادت من المعجزات ولكّنها لم تؤمن فهلكت.

والآية الثالثة عبارة عن استفهام إنكاري توبيخي أيضاً، يدعو الله عزّ وجلّ من خلاله الكفّار إلى التعقّل والتأمّل في موقفهم المعارض للنبي (؛ أي أنّ هذا الكتاب فيه شرفكم وصيتكم، أو موعظتكم، أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء، أو حسن الذكر كحسن الجوار والوفاء بالعهد وصدق الحديث وأداء الأمانة والسَّخاء وما أشبه ذلك (62)، ثمّ قال تعالى: (أَفَلاَ تَعْقِلُون (، وهي دعوة صريحة إلى إعادة النظر والتدبّر أكثر.

ب ـ البيان الحجاجي بالحصر:

اُعتُمدت البنية الحجاجية القائمة على الحصر في سورة الأنبياء، نوضِّح ذلك من خلال الآيات التي تُؤكّد على القضيّة الجوهرية التي قام عليها القرآن الكريم بعامّة، وهذه السورة بخاصّة، وهي قضيّة التوحيد، منها قوله جلّ شأنه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إلاَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ((63)، وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ إِنَّمَا إِلاَهُكُمُ إِلاَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ((64)؟

فالحصر ضمن هذا البيان الحجاجي يؤكِّد أنّ كلّ الرسالات الإلهيّة وكل الأنبياء والمرسلين بُعثوا ليدعوا إلى عبادة الله تعالى الواحد الأحد.

ج ـ البيان الحجاجي بالشرط:

يقوم الشرط في العربية على أمرين الشرط وجوابه، وقد تكرّر كثيراً في سورة الأنبياء، ومن ذلك:

ـ قال تعالى: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لََدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلينَ ((65).

ـ قال جلّ شأنه: (لَوْ كَانَ فيهِمَا آلَهةٌ إلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ((66).

ـ قال تبارك وتعالى: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالمِينَ ((67).

ـ قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلُ مِنَ الصَّالحَاتِ وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإنَّا له كّاتِبُونَ ((68)

ـ قال جلّ شأنه: (لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيها خَالِدُونَ ((69).

فكل آية من هذه الآيات تُمثِّل بنية حِجاجيّة مبنية على قضية وما يمكن أن ينتج عنها، تمثِّل في أساسها حجّة بليغة. فالآية الأولى تطرح الحجّة على الكافرين وهي أنّ الله تعالى مُنَزَّه عن اللعب والهزل واللهو؛ لأنَّه لو أراد أن يتَّخذ ذلك لاتَّخذه، لكّنه سارع إلى نفي ذلك، فقال جلّ جلاله: (إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (؛ أي "ما كُنَّا فاعلين"، لأنّ "إن" ههنا تفيد الإنْكار (70).

أما الآية الثانية فتمثِّل الدليل العقلي على وحدانية الله تعالى، قال الرماني: "وهذا أبلغ ما يكون في الحجاج، وهو الأصل الذي عليه الاعتماد في صحّة التوحيد؛ لأنّه لو كان إلاه أخر لبطل الخلق بالتمانع بوجودهما دون أفعالهما" (71). فلو قُدِّر إلهان فإما أن يتَّفقا أو يختلفا، فإن اتَّفقا على الشيء المعيّن فهو مقدور لهما، ومراد لهما، فيلزم وقوعه بهما وهو محال. وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما؛ أو يقع أحدهما دون الآخر والكلّ محال. فاتَّضح من كلّ أنّ الفساد لازم على كل التقديرات (72). فلو تعدّدت الآلهة لما وقع الاتِّفاق؛ بل سيعمّ الفساد، وهذا ما أثبته الله تعالى في القرآن الكريم، قال جلّ شأنه: (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلاَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كلُّ إِلاَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015