ـ من الآية الأولى إلى الآية السابعة والأربعين، طرح لآيات القرآن الكريم الذي نزل على سيِّد البشريّة محمد ـ (ـ وتأكيد على عظمة الله تعالى ووحدانيته.

ـ من الآية السادسة والثلاثين إلى الآية الواحدة والتسعين عرض للأنبياء والمرسلين الذين شرَّفهم الله سبحانه وتعالى بتبليغ الناس وحملهم على كلمة التوحيد، بدءاً بخاتمهم سيِّدنا محمد ـ (ـ ثم ذكر الله سبحانه وتعالى من سبقه إلى هذه الدعوى؛ أمثال موسى وهارون وإبراهيم ونوح وداود وسليمان عليهم السلام وغيرهم، ليبيِّن الله عزّ وجلّ ههنا أنّ الرسل الذين سبقوا النبي (قد اُسْتهزِئَ بهم أيضاً وهم يدعون إلى عبادة الرحمن، كما استهزأَ الكفار بمحمد ـ (، قال تعالى: (وَلَقَدْ اُسْتُهْزِئَ بِرُسِلٍ مِنً قَبْلبِكَ فَحَاقَ بِالذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤون ((40).

ولعلّ أهم سمة لاحظناها من خلال عرض أحداث الأنبياء والمرسلين في هذه السورة هو حاجتهم إلى الخالق ربّ العالمين، وعناية الله عزّ وجلّ بهم، ومدِّهم بمعجزات وسمات معيّنة. ومما يدّل على ذلك أنّ هذه الآيات اُسْتُهِلَّت بـ "آيتنا"؛ وهي من المفاعلة، أي جئنا وأعطينا.

ـ من الآية الثانية والتسعين إلى الأخير عودة إلى كلمة التوحيد، مع بيان أنّ الخطاب موجّه للنّاس كافّة، والتأكيد على يوم القيامة؛ يوم الحساب والعقاب، وأنّ النبي محمد (جاء رحمة للعالمين، يدعو إلى ما فيه الخير للناس أجمعين.

ومن خلال بيان الهيكل العام للسورة نلاحظ ذلك الانسجام والتناسق بين مقاطعها؛ فالمقطع الأوّل كان حول موضوع "التوحيد"، ليأتي المقطع الثاني عرضاً للأنبياء والمرسلين الذين دعوا إليها، لينتهي الأمر في المقطع الثالث إليها، حيث جاء النبي (ليهدي النّاس كافّة إلى عبادة الخالق عزّ وجلّ.

ونستطيع الآن أن نقدِّم نماذج عن البيان الحِجاجي في هذه السورة، ولنركِّز على الخصوص على ما يلي:

أ ـ البيان الحجاجي بالاستفهام:

الاستفهام هو طلب المعرفة حول شيء معيّن، وله دور كبير في العمليّة الحجاجيّة، "نظراً لما يعمله من جلب القارئ أو المستمع في عمليّة الاستدلال، بحيث إنّه يشركه بحكم قوّة الاستفهام وخصائصه، فهو أسلوب إنشائي. وهذه الأمور أيضاً هي من سمات الاستفهام البلاغي في القرآن الكريم بحيث إنّه يخدم مقاصد الخطاب ويلعب دوراً أساسيّاً في الإقناع بالحجة" (41). فللاستفهام بنية حجاجيّة تقوم على طرح القضية المخصوصة، ثمّ تقديم ما يشرحها ويعلّلها. وقد وُظِّف في سورة الأنبياء في واحد وعشرين موضعاً، معظمه تمَّ بالأداة "الهمزة"، قد نمثِّل لهذا الصنف بالاستفهام الذي ورد في قصّة سيِّدنا إبراهيم (، والذي يدور في جوهره حول القضّية الأساسيّة التي تتمحور حولها السورة؛ وهي قضية "التوحيد"؛ فهي تقتضي البيان وقرع الحجّة على ذلك. نوضِّح ذلك أكثر من خلال ما يلي:

ـ قال تعالى: (إِذْ قَالَ لأَبيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَمَاثِيلُ التي أَنْتُمْ لَهَا عَابِدِينَ ((42)؟ فالمفروض ههنا أن تأتي الإجابة عن هذا السؤال بما يؤثِّر على النفوس وتطمئنُّ له العقول، لكّنها كانت غير ذلك، قال تعالى: (قَالُوا وَجَدْنَا آباءَنَا لَهَا عَابِدينَ ((43)؛ إذ نلاحظ غياب العقل في هذه الحجة، فعبادة الأصنام لديهم كانت مجرّد تقليد للآباء والأجداد؛ و"ما أقبح التقليد والقول المتقبّل بغير برهان، وما أعظم كيد الشيطان للمقلّدين حين استدرجهم إلى أن قلّدوا آباءهم في عبادة التماثيل" (44). ولذلك ردّ عليهم إبراهيم (هذه فقال: (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وآبَاؤُكُمْ في ضَلاَلٍ مُبِينْ ((45)، ولكنّ قوم إبراهيم (لم يكترثوا بهذا الردِّ؛ بل راحوا يمزجون هذا الموقف بالجدّ والهزل فقالوا: (أَجِئْتَنَا بِالحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبينَ ((46)؟ لتأتي الإجابة بعدها مقترنة بـ "بل"، وهي من الروابط الحجاجيّة التداوليّة التي تفيد الإضراب الإبطالي؛ أي نفي الحكم السابق عليها وإثبات ما بعدها. لذلك قدّم إبراهيم (بعدها الحجّة الدامغة التي تبطل دعواهم، باعتبار أنّه قد "بادرهم أوّلاً بالقول المنبِّه على دلالة العقل، فلم ينتفعوا بالقول فانتقل إلى القول الدالِّ على الفعل الذي مآله إلى الدلالة التامّة على عدم الفائدة في عبارة ما يتسلّط عليه بالكسر والتقطيع ... " (47). ولهذا

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015