ب ـ القرآن الكريم هو خطاب موجَّه إلى مخاطب كوني؛ أي أنَّه لا يتوسّل متلقِّياً معيّناً في زمان أو مكان مخصوصين؛ وإنما هو خطاب موجّه إلى البشريّة جمعاء، فهو غير مقيّد بزمان أو مكان، قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَميعاً الذِي له مُلْكُ السَّماوَاتِ والأرضِ ((31)، فالرسول ـ (ـ بُعث إلى كافة الناس.

ولذا فالقرآن الكريم يسعى إلى جعل العقيدة المبسوطة فيه إلى ديّانة عامّة غير مقيَّدة، وهنا نشير إلى أنّ "المخاطب المتخيّل هو دائماً بالنسبة لمن يحاجج عبارة عن بنية ممنهجة نوعاً ما؛ أي أنّه يؤطِّر القول ويجعله ملائماً لظروفه الواردة فيها، والمتكلَّم البارع هو الذي يستحوذ حذقاً وطواعيّة على مدارك المعنيين بخطابه أو بنصِّه طيلة فترة الاستماع في حالة الإلقاء، أو النظر التحليلي حالة القراءة" (32). والقرآن الكريم في إطار هذا الطرح استطاع أن يؤثِّر على النفوس، ويستميل العقول من أجل التدبِّر في آياته ومعجزاته من أجل الاقتناع بمقاصده.

جـ. كونية الخطاب القرآني جعلته يقوم على توظيف أساليب متنوعة في التبليغ، لا تتأسّس على الفهم والإفهام فحسب؛ بل تقوم أيضاً على التأثير واستمالة الآخرين، واستنفارهم بغية استنهاض ملكتهم وجعلهم ينخرطون في الحركة الفكرية الموجودة في الخطاب القرآني. وهذا ما يجعل النص القرآني يفترض في طرحه للقضايا الدينية وجود متلقٍّ فعلي أو مفترض، يستدعي مجاجته وإقناعه. فالقرآن الكريم قد استحضر في إنجازه كل الاعتراضات التي يمكن أن تدور في خلد المتلقِّي الفعلي أو المفترض، ولهذا بسط كلّ ما يأخذ بذلك.

6 ـ نماذج الأنبياء من السور المكيّة الأوائل التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم.

فهي تشاركهنّ في أنّها تركز على الموضوعات المتَّصلة بالعقيدة ووحدانية الخالق عزّ وجلّ. ولكن ما يميَّز هذه السورة أنّها أبرزت كلمة التوحيد التي نزل بها القرآن الكريم كما أوردها دعاتها من الأنبياء والمرسلين السابقين، فقد نزلت لتثبِّت عقيدة التوحيد بالحجج والأدلّة، وكلّها تتّصل بعظمة الله تبارك وتعالى وقدرته.

وقد بيَّنا من قبل أنّ الغاية التي يقوم عليها الحجاج هي تحقيق الاقتناع بالرأي أو بالدعوى المقدَّمة، بالاعتماد على الحجّة والدليل على ذلك. ويجب أن نشير في رحاب هذا التوضيح إلى أنّ الدعوى التي تأسّست عليها سورة الأنبياء هي أنّ النبي (بشر، وهذا ما ذُكِر في غير مرّة من هذه السورة؛ منها قوله تعالى: (هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُم ((33)، وقوله عزّ وجلّ: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إلاَّ رِجَالاً يُوحَى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ. وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَ يَأْكُلُونَ الطَعامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ((34)، وقوله جلّ جلاله: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَأِنْ مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ ((35). وقد جاء الرسول (كباقي أنبياء المرسلين ليثبِّت عقيدة التوحيد، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلاَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ((36). والغاية ههنا جعل الناس أمّة واحدة، تعبد خالقها الواحد الأحد، قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمُ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ((37).

أمّا دعوى المشركين فقد قامت على تكذيب الرسول (وآيات الذكر الحكيم، قال تعالى: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلْ اِفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ((38)، ليتجلّى من خلال هذه الآية اضطرابهم وحيرتهم وعدم ثبوتهم على حجّة معيّنة. وهذا ما جعل الله تعالى يدعوهم في هذه السورة إلى أن يأتوا بدليلهم قال تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُون ((39).

وقد وُظِّف في سورة الأنبياء من الحِجاج ما يخدم الدعوى الأولى (أ)؛ دعوى التوحيد، ومنه ما يتعلّق بالدعوى الثانية (ب)؛ دعوى الشرك. وقبل تقديم نماذج عن ذلك يجب أن نتناول البناء العام للسورة، حيث بُنيت على الشكل الآتي:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015