وبالنظر إلى عدم دقة التعاريف المقدمة لعلوم القرآن كفن مدون و الإشكاليات الناتجة عنه, وبعد التأمل في ماهية علوم القرآن وموضوعاتها أري - والله أعلم- أن ثنائية تعريف علوم القرآن عند الباحثين المعاصرين- أعنى تقسيم علوم القرآن إلى المعنى الإضافي و إلى فن مدون- ومن ثم البحث عن تعريف لهذا الثاني هي جوهر المشكلة. فهذا التقسيم الثنائي عجز عن تحديد دقيق لموضوعات علوم القرآن ومنع التداخل بينها ووضع خطوط فاصلة بين ما هو من علوم القرآن وما هو ليس منها. أضف إلي ذلك أن كون التدوين والتأليف وتناول عناصر معينة في الكتب حسب اجتهادات فردية ورؤية مختلفة لكل مؤلف في تناول موضوعات وعدم تناول أخري- مثلما هو الشأن في كتب علوم القرآن- ليس مبررا كافيا ومقنعا لهذا التفريع الثنائي. و للخروج من هذه الإشكالية إما يبحث عن تعريف جامع ومانع لعلوم القرآن كفن مدون، أو نعود إلى اختيار تبني مفهوم علوم القرآن بالمعنى الإضافي وتقديم تعريف مناسب له بحيث يشمل جميع العلوم المساندة والخادمة للقرآن الكريم. ولا شك أن هذا هو الأقرب إلى مفهوم علوم القرآن لدي العلماء والأئمة المتقدمين ورؤيتهم لموضوعات العلم بشمولية وتوسع أكبر، مثل: ابن الجوزي والزركشي والسيوطي- رحمهم الله جمعيا- وقبلهم الإمام الجليل محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله وبعده الإمام الحرالي ومن سلك مسلكهم.
وأرى أن النظر إلى علوم القرآن بهذه النظرة الشمولية -خاصة لو نأخذ في عين الاعتبار تقارب وتداخل العلوم الشرعية- كان من أكبر الأسباب في توسع دائرة علوم القرآن وتطورها عبر العصور وإضافة موضوعات ومباحث جديدة إليها, وهو أقدر إلى إتاحة مجالات أكبر وأوسع للبحث في العلوم المستنبطة من القرآن. وكذلك العلوم المساندة والخادمة له في عصرنا نحن وفي العصور اللاحقة بإذن الله تعالى. وأظن أن هذه الرؤية وهي رؤية سلف الأمة وعلمائها المتقدمين في أزهى عصور الحضارة الإسلامية هي أقدر لتنشيط علوم القرآن وإثراء مادته، وإبطال النظرة التي ترى علوم القرآن مثل كثير من العلوم قوالب جامدة احترقت مادتها وتفتقر للجدة ولا مجال للإضافة و الاجتهاد فيها.
وبناء على ما ذكر نحاول تقديم تعريف لعلم "علوم القرآن" نرجو أن يكون دقيقا وخاليا من مآخذ التعاريف السابقة، فنقول في تعريف علوم القرآن:
"علم يدرس الموضوعات المتعلقة بالقرآن الكريم سواء أكانت خادمة له أم معينة على فهمه".
شرح التعريف:
نريد بـ"العلم" أن علوم القرآن علم مستقل ذو تعريف وموضوعات خاصة تميزها عن بقية العلوم. وجملة "الموضوعات المتعلقة بالقرآن الكريم" تشير إلى خصوصية المسائل المدروسة في هذا العلم، وهي المباحث المتصلة بالقرآن الكريم، وبها تخرج المسائل التي لا علاقة لها بالقرآن الكريم من نطاق علم علوم القرآن. وعبارة "سواء أكانت خادمة له أم معينة على فهمه" بمثابة وصف أو قيد لطبيعة الموضوعات المتصلة بالقرآن والتي تدرس في علم علوم القرآن, وهي موضوعات معينة وليست كل موضوع يمكن أن يتصل بالقرآن، ولكن فقط الموضوعات التي تخدم القرآن الكريم في جانب معين أو يساعد على فهمه. وأما الموضوعات الخادمة للقرآن فمثل: جمع القرآن، ورسم المصحف, وفضائل القرآن, وأحوال نزول القرآن مثل أول ما نزل وآخر ما نزل والحضري والسفري والصيفي والشتائي الليلي والنهاري وغيرها, أو الأحرف السبعة, وكيفية انزال القرآن (الوحي) , وعلم طبقات القراء, وآداب القراءة, وتجويد القرآن, وعلم إعجاز القرآن, وتاريخ التفسير, وطبقات المفسرين, ومناهج المفسرين وأمثالها. هذه المباحث تخدم القرآن الكريم في مختلف الجوانب، ولكن لا اتصال لها مباشرة بفهم القرآن.
وأما الصنف الثاني من موضوعات علوم القرآن، فهي التي تساعد في فهم القرآن مثل: أسباب النزول, والمكي والمدني, والقراءات وتوجيهها, وغريب ألفاظ القرآن, وإعراب القرآن, ومشكل القرآن, ومعرفة المحكم والمتشابه، والتفسير بأنواعه التحليلي والموضوعي والمقارن والإجمالي وأصول التفسير وقواعده, وعلم الناسخ والمنسوخ, والخاص والعام, والمطلق والمقيد, والمجمل والمبين, والوجوه والنظائر, وأقسام القرآن وأمثاله, وعلم المناسبات وما إلى ذلك.
¥