أما أبو القاسم حاج حمد، فيراه النيفر، مصرا على الفهم العربي السلفي للقرآن في كتابه "العالمية الإسلامية الثانية"؛ كما أنه يصر على أن القرآن هو مصدر الحقيقة المفتوح على التجربة الوجودية الكونية! وهو مصدر الحكمة الشاملة التي تنبعث عبر التزكية الإلهية للإنسان. والحاج حمد، بنظر النيفر، لا يؤمن بوجود فهم جديد للقرآن كان غائبا فيما مضى وهو يتبنى بذلك رؤية المدرسة السلفية التي تعتبر أن الفهم الأمثل للنص القرآني قد أتيح للجيل الأول من المسلمين وأن الصيرورة التاريخية لن تزيد شيئا على الفهم الأول للنص. ثم ينخرط الحاج حمد، بنظر النيفر، في خطاب إيديولوجي مغلق النسق، يرفض بموجبه اعتماد منهجية تاريخية في دراسة التراث التفسيري. (ص77).

وخلاصة هذا التيار الإيديولوجي، أنه لم يستطع الخروج عن حدود المدرسة السلفية، ولم يبلغ درجة التطور النوعي، برغم تطور عدتهم المعرفية من خلال الاستنجاد بالاكتشافات العلمية في الطب والفلك والكيمياء والطبيعة، بل اتسعت الاستفادة لتشمل الألسنية وعلم الاجتماع وعلم النفس. ولكن الوثوقية التي ميزت هذا التيار جعلته، برأي النيفر، يؤمن بالمعنى الثابت والنهائي في القرآن، وعلى المفسر أن يتوصل إليه. في حين القراءة التجديدية التي يطمح إليها النيفر، هي التي ترى أن معنى النص يعتمد مجموعة من العلاقات المتفاعلة والمعدلة من فهم النص بصفة دائمة بحسب أفق المفسر وموقعه المعرفي والتصوري؛ أي الجدل بين النص والقارئ وفتح آفاق جديدة لجهود تفسيرية مجددة. (ص77).

وانتقل النيفر إلى ما يعتبره مدرسة حديثة تتبنى سؤال التجديد! والتي استفادت من الكشوفات العلمية الجديدة لقراءة النص؛ إذ قطعت منهجيا مع أصحاب التراث التفسيري القديم والتيار الإيديولوجي وفكره الوثوقي، المسكون بالهاجس الغربي والرافض لأية مراجعة جذرية وعلمية لمسألة الوحي وطبيعة النص القرآني. (ص79).

ويمثل هذه المدرسة الحديثة ثلاثة رواد هم: أمين الخولي وعائشة عبد الرحمن وأحمد خلف الله. وقد أرسى أمين الخولي بناء هذه المدرسة، منهجيا، على ما أسماه "التفسير البياني للقرآن"، وطرح أسئلة عن وظيفة المفسر ومكانة النص المفسر، ورفض أن يظل التفسير مجرد أداة لاختبارات مذهبية وتوظيفات دعوية مهما كانت أهميتها.

وحدد خصائص منهجه التجديدي في ثلاث خاصيات هي:

أ - الخاصية الموضوعية: أي جمع الآيات المتصلة بموضوع من المواضيع جمعا إحصائيا ودراسة مفرداتها في سياقها وعلاقة الواقع بالمعنى.

ب - الخاصية المعرفية: تهتم بما حول النص من معارف: وهي علوم القرآن.

ج - الخاصية التاريخية اللغوية: أي الاهتمام بالبيئة التي نزل فيها القرآن، مادية أو معنوية ...

كما دعا إلى الاستفادة من علمي النفس والاجتماع. ولو أن الخولي لم ينجز تفسيرا وفق منهجه التجديدي فإن رسالته تابعها بعض تلامذته؛ فعائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ، تعاملت مع النص القرآني باعتباره نصا لغويا متكاملا يفسر بعضه بعضا، كما تابعت الخولي في قوله بتاريخية الألفاظ القرآنية ومناسبة التراكيب لها، مما تفتقر إليه المعاجم اللغوية.

أما محمد أحمد خلف الله، فقد ذهب بهذا المنهج التجديدي، بنظر النيفر، إلى أبعد مدى ممكن في وقته؛ من خلال أطروحته عن الفن القصصي في القرآن الكريم سنة 1947م. فخرج بآراء جريئة تعتبر القصة في القرآن ذات بعد تربوي ولم تكن معطيات تاريخية. كما اعتمد على معطيات اجتماعية للقول بوجود قصة أسطورية في القرآن، وهذه القصص هي عبارة عن وسائط فقط لمقاصد أهم. (ص87). وانتقد توجه المفسرين إلى اعتبار هذه القصص وثائق تاريخية، ومن هنا وصل خلف الله إلى القول بنسبية النص القرآني بل وادعى أن الأخبار الواردة في القرآن هي مواعظ وحكم وأمثال تضرب للناس؛ من هنا يصبح من حق العقل البشري أن يهمل صفتها الإخبارية أو يجهلها أو يخالفها أو ينكرها! (ص88).

هذا التيار التجديدي، أشاد به النيفر كثيرا، وتحمس له واعتبر منهجه في التفاعل اللغوي مع النص القرآني استبعادا للتوظيف الإيديولوجي، هذا التيار الأخير الذي يتجاهل ما للنص القرآني من مضامين وخصوصيات لغوية أدبية وتاريخية ينبغي الإنصات إليها.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015