الكمال في بحثه، بل نسبية المعرفة كانت هاجسهم الأصيل في دراساتهم! ولم يجعلوا تفاسيرهم عوضا عن القرآن الكريم، ولم يقولوا بنموذجية فهومهم. والوقوف عندما وصلوا إليه من غير إضافة وإبداع أمر ارتبط بانهيار حضاري عام، واستقالة عقل أمة بكامله! ولا يمكن تحميل المسؤولية للمفسرين الذين فكروا وأبدعوا وأنتجوا بما تسمح به ظروفهم وطاقتهم! ويمكن الاستفادة منهم اليوم على سبيل الاستئناس والتراكم المعرفي التاريخي. ولكن النيفر لم يكن هذا قصده؛ بل تراه في كتابه يحمل بعنف وتحيز على كل فكر عميق وأصيل، ويتحمس لكل شاذ ودخيل! وهو الإسلامي التقدمي الذي ساهم في وضع المقدمات النظرية للإسلاميين التقدميين! وهذا ما سنقف عليه لاحقا.

وصنف النيفر مجموعة من الدراسات القرآنية ضمن ما أسماه "التيار الإيديولوجي"؛ والإيديولوجيا عنده هي العمل التفسيري الذي يوضع للإجابة عن أسئلة مطروحة مسبقا. ويعرض هذا التيار نفسه عبر بناء عقلاني بصفة نقدية. (ص57) ولما كان هذا التيار يعتبر المعنى أمرا ثابتا مطلقا، وهو اختياره المنهجي، فهو يصنف إذن، حسب النيفر، ضمن المدرسة السلفية رغم اختلافات ظاهرية.

كما أن هذا التيار امتداد لنفس المنظومة الثقافية التي اعتبرت النص القرآني نصا مقدسا لاصلة له بنفس الإنسان وأفقه وثقافته. فكأن قدسيته لا تتحقق إلا بغياب طاقات الإنسان ونفي فاعلية واقعة الفكري والاجتماعي عند الكشف عن المعنى. (ص59). وذكر النيفر من بين ممثلي هذا التيار: جوهري طنطاوي (1940ه) الذي اعتبر تفسيره نفخة ربانية وإشارة قدسية وبشارة رمزية .. وابتعد، بنظر النيفر، عن الحقول المعرفية التي اعتنى بها المفسرون القدامى والمتعلقة بالبلاغة والفقه والتصوف. ونحى تفسيره منحى عصريا .. ولكنه يبقى في جوهره غير مختلف عن التفسير السلفي.

أما تفسير سيد قطب، فيرى النيفر، أنه يضفي مواصفات نضالية على المفسر، ويؤكد على خوض تجارب تغيير الواقع. وعليه فالمرجعية السلفية عند سيد قطب ليست مرجعية ثقافية فكرية بل هي مرجعية نضالية حركية. (ص56) من هنا يمكن ملاحظة المكونات الوجدانية والفكرية لسيد قطب في تفسيره. ولكن خطاب سيد قطب، عند النيفر، يبقى مجرد إيديولوجيا مثالية مرتبطة بضغط مفهوم "الهوية المثالية" بدلالاتها اللاتاريخية. وكل هذا يضع فهم النص القرآني خارج الاعتبارات الزمانية والمكانية، ويكسب المفاهيم التي يعتمدها المفسر سمة الإطلاق والمنفذ الوحيد لتحقيق نضاليته الثورية.

وأدرج النيفر، أيضا، الكواكبي ومجاهدي خلق ضمن التيار الإيديولوجي، ولم يخف الكاتب نقده المبطن للكواكبي لما وصف به القرآن من أنه شمس العلوم وكنز الحكم. (ص68) أما مجاهدي خلق فتميز تصورهم برفض كل التفاسير، مع استفادة ملحوظة من تقسيمات سيد قطب.

وختم النيفر حديثه عن التيار الإيديولوجي بنقده لنماذج ثلاثة معاصرة وهي: المهندس محمد شحرور، وحسن حنفي، والمفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد؛ فقد وصف دراساتهم بأنها تتصف بالمراجعة لما هو متفق عليه في التراث التفسيري من نظرة إلى النص القرآني، أو من تحديد لوظيفة المفسر في الفترة المعاصرة، لكنها تتفق على تبني خطاب إيديولوجي يسقط على النص، بنحو من الأنحاء، مفاهيم لا تحتملها بنيته، وتقحم عليه من المعاني مالا يقتضيه سياقه (ص71)؛ فمؤلف محمد شحرور "الكتاب والقرآن"، يمثل نموذج الخطاب الإيديولوجي المتأرجح بين المنهج اللاتاريخي التراثي وبين بداية القراءة العصرية التي تفسر النص عبر وضعيته التاريخية. إلا أن هذه المحاولة لم تستطع، بنظر النيفر، حسم العلاقة مع المنهج التراثي الذي ظل راسخا.

أما حسن حنفي الذي عالج في أطروحته مناهج التفسير، فقد قطع مع النظرة السلفية في تحديد "الوحي"؛ فهو لا يراه وحيا عن الله بل عن الإنسان الباحث عن الحقيقية الإلهية عبر تجربته وصراعه؛ فالوحي ليس نازلا من الله إلى الإنسان بل هو صاعد من الإنسان إلى الله لتلبية نداء الواقع، وللتعبير عن مطامح الأمة أو الجماهير. (ص73). من غير أن يخفى حنفي نزعته الإيديولوجية؛ إذ لا يتردد في القول بضرورة تحويل الدين إلى إيديولوجيا.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015