(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) ذكر اليتيم، لأنه قبل قليل قال: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى). فينبغي أن يكون شكر النعمة، من جنس النعمة، فإن كنت يتيمًا يومًا من الدهر، فجدير بك أن ترفق باليتامى، وإن كنت فقيرًا يومًا من الدهر، فحري بك أن تعطف على الفقراء.

(فلا تقهر) أي: لا تغلبه بأخذ ماله، أو غير ذلك. وقد كان اليتامى في الجاهلية يغلبون على أمرهم، وتؤخذ أموالهم، ولا يررثون، فحفظ الإسلام حقهم، وأوصى بهم.

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) (السائل) هو المستجدي الفقير، فلا تزجره لفقره. والسائل، مظنة الزجر؛ لأنه يتضع، ويذل نفسه لكي يحصل على مطلبه، فيجرأ غيره عليه، وربما نهره وزجره.

والحقيقة أن كلمة السائل أوسع من أن تختص بالسائل بسبب الفقر، بل تتناول السائل عن أي مصلحة من المصالح؛ دينية كانت، أو دنيوية، فإنه لا ينهر، فإذا سألك سائل عن أمر من أمور دينه، فلا تنهره، بل سهل، ورحب، وأجب طلبته، إذا كان عندك علم تجيبه به. وكذلك لو سألك عن أمر من الأمور التي تحسن، فأعنه، ولو سألك عن الطريق فدله.

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) يعني: فأخبر الناس بما أنعم الله تعالى عليك، ولا تكتم ذلك، وتجحده. فإن الحديث بذلك من شكر النعمة. وقد قال القائل:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا

فشكر نعمة المنعم يكون بالجوارح، وباللسان، وبالقلب.

فيشكر العبد ربه بقلبه: بمعنى أن يغتبط قلبه بنعمة الله عليه، ويعلم أنها من عنده.

وبلسانه: فلا يزال يحدث بنعمة الله عليه، وأنه في خير وعافية من الله، ونحو ذلك.

وبجوارحه: فيسخِّر جوارحه في طاعة الله، من السعي على الأرملة، والمسكين، ومساعدة الملهوف، وإغاثة المضطر، وامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، لجوارحه، فبذلك يحصل الشكر.

وقيل: إن معنى (حدث): يعني جدد، شكرًا إثر شكر. والناس يتفاوتون في استقبال نعمة المنعم؛ فمنهم من يغتبط بنعمة الله، ويثني بها عليه، ويحدث بهذا الفضل، ومن الناس من يجحد النعمة، وينسبها إلى نفسه، كما فعل قارون، قال (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي). وهذا، بأقبح المراتب. وثمَّ فئة ثالثة، وهم الذين ينعم الله تعالى عليهم، ثم يكتمون نعمة الله عليهم، خوفًا من العين! فيتظاهرون بالبؤس، وسوء الحال. وهذا في الحقيقة نوع شرك، لأنه خوف زائد، وفيه كفران للنعمة، وفيه ضعف شخصية. والذي ينبغي للعبد إذا انعم الله تعالى عليه أن يحدث بنعمة الله عليه. وليس المقصود أن يفتخر في المجالس، ويفيض في التفاصيل، كلا! وإنما يتكلم بكلام عام، مجمل، يتضمن ذكر نعم الله، والثناء بها عليه. وأما من أشرت إليهم، فتجد أحدهم إذا سئل، أجاب بما يشعر بأن الأمور بين بين. وهذا، في الحقيقة، كفران للنعمة، وخوف مبالغ فيه. وعلى العبد أن يقوي توكله على الله، ويعلم أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يدفع السيئات إلا الله، وأن الله تعالى هو الذي يعصمه، وأن عليه أن يخشى أن يسلبه الله النعمة، بسبب هذا التكتم والجحود.

وهذه السورة قد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في آخرها. وقد اختلف في ثبوت هذا، وهل هو من سنن القراءة، أن يكبر في أخرها وما بعدها، من السور، فاعتمد ذلك بعض القراء، وبعضهم رده. وللشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد - رحمه الله - بحث رائق في هذا في كتابه (بدع القراء).

الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: مشروعية رد شبه الطاعنين.

الفائدة الثانية: كرامة النبي- صلى الله عليه وسلم - على ربه في الدنيا والآخرة.

الفائدة الثالثة: منة الله تعالى على نبيه ورعايته له

الفائدة الرابعة: أن شكر النعم يكون من جنسها. فمثلا إذا أنعم الله عليك بالمال فإن من شكر نعمة الله بالتوسعة في المال، أن تتوسع في الصدقة، والنفقة، وألا تمسك. وإذا انعم الله عليك بالعلم، فإن من شكر الله نعمة الله بالعلم، أن تبذله لطالبيه؛ وتعلم الجاهل، وتذكر الناسي، وتنبه الغافل. وهكذا في كل باب من الأبواب اجعل شكر النعمة بالدرجة الأولى من جنسها.

الفائدة الخامسة: إظهار فضل الله تعالى على العبد، والثناء به عليه. فينبغي أن يظهر العبد فضل الله عليه ويثني به على مسديه.

الفائدة السادسة: فساد مسلك أهل الجحود للنعم، على اختلاف أنواعهم

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015