وقد قيل قول رابع في معنى (سجى)، لكن فيه غرابة، أي: ذهب! فإن كان صحيحًا في اللغة، فمعنى ذلك أن كلمة (سجى) من الأضداد.
(مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) (ما): نافية. والودع هو الترك.
(وَمَا قَلَى) يعني: وما قلاك. ومعنى (قلى): أبغض، وجفا. فالمعنى: ما تركك، ربك يا محمد، ولا أبغضك، ولاجفاك، كما زعم المشركون.
وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم – كان ينزل عليه الوحي متتابعًا. فأول ما أنزل الله – تعالى - عليه سورة (اقرأ)، ثم بعد ذلك نزلت سورة (المدثر)، وتتابع الوحي. ثم انقطع عنه الوحي، كما جاء في السير، خمس عشرة يومًا، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتاق له شوقًا عظيمًا، ولحقه من اللهف شيء عظيم، ووقع في نفسه شيء أن يكون الله - عز وجل – قلاه. والصحيح ما رواه البخاري، عن جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا. فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ. لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى". وفي الترمذي، عنه: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ، فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
قَالَ: وَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى". قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ففي هذه الآيات يطمئن الله نبيه، ويسليه عما قاله المشركون، ويبطل دعواهم.
ولم يزل أنبياء الله تعالى يعانون من هؤلاء الطاعنين، كما قال الله عز وجل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا). ولم يزل أعداء الرسل ينالون منهم، ويؤذونهم بالمسبة. وحتى يومنا هذا يلقى أنبياء الله، عامة، ونبينا - صلى الله عليه وسلم – خاصة، الأذى، والطعن. كان المستشرقون ينالون من شخص نبينا - صلى الله عليه وسلم - ويوجهون له المطاعن ليستزلوا المسلمين عن إسلامهم. وجاء هؤلاء الغربيون، اليوم، ليؤذوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسوم المسيئة، وبالأفلام، وبالمقالات السيئة، ولكن أنى لهم! فمقام نبينا - صلى الله عليه وسلم - في القمة السامقة، لا يتمكن هؤلاء الأدعياء المزيفون من أن يطالوه بقلامة ظفر. ولكن هذا لايغني عن الرد، وذلك حفظا لدين الله، وغيرةً على نبيه- صلى الله عليه وسلم - وانتصاراً له، وإلا فإن الله ناصر دينه، ومعز نبيه، صلى الله عليه وسلم.
(وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) اللام في قوله (وَلَلْآَخِرَةُ) لام القسم. والمعني: ما أعد الله لك في الدار الآخرة، من الكرامة والنعيم (خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) أي: الدنيا.
(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) (سوف) للمستقبل، و (اللام) للقسم، أيضاً. فالله تعالى يعد نبيه بجزيل العطاء، حتى يبلغ درجة الرضا.
وهذه الجمل، جواب القسم، في مطلع السورة. وجواب القسم: أمران منفيان، وأمران مثبتان:
- فالمنفيان (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)
- والمثبتان (وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)
قال بعض المفسرين، وروي في ذلك حديثًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: (إذاً لا أرضى واحد من أمتي في النار، أو لا أرضي أن يدخل أحد من أمتي في النار)، ولكن هذا حديث ضعيف، ويتعلل به أصحاب الأماني الباطلة، من أهل الفسق، فيسوغون لأنفسهم ارتكاب المعاصي والفجور، بناء على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لن يرضي أن يدخل أحد من أمته النار! وهذا لا يصح تسويل، وتزيين، وإملاء، من الشيطان لهؤلاء ليتمادوا في معاصيهم.
¥