وبين هذه المعاني الثلاث تلازم، فإن من صدق بموعود الله، مصدق بـ (لا إله إلا الله)، وهو من وراث جنة النعيم. لكن السياق يرجح ما اختاره ابن جرير الطبري، بأن (الحسنى): الخلف. وإذا نظرنا للعموم، فإن المراد يتعلق بـ (لا إله إلا الله) التي هي كلمة التوحيد.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) هذا جواب الشرط. (نيسره): يعني نهيئه بيسر، وسهولة. و (اليسرى) هي الجنة، أو عمل الصالحات.

وبإزاء ذلك قال الله - تعالى - (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) بخل بحق الله، بخل بالزكاة، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - فهو البخل بحق الله الواجب عليه.

(واستغنى) يعني استغنى بماله، وجاهه، عن ثواب الله، كأنما قال: لا حاجة لي، وأنا عندي ما يكفيني، كما قال قارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي).

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) هي النار، أو عمل الشر.

ونجد أن الله تعالى اسند هذه الأفعال إلى العباد، فهم الفاعلون لها حقيقة. خلافاً للجبرية الذين يزعمون أن العبد كالآلة، لا يفعل حقيقة، وإنما هو مظهر لفعل الله. ومن طوائف الجبرية، الأشاعرة القائلون بنظرية (الكسب). وهي دعوى باطلة، غير معقولة. قال الناظم:

مما يقال ولا حقيقة عنده معقولة تدنوا إلى الأفهام

الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام

فيزعمون أن هذا كسب، وليس فعلاً للعبد حقيقة، بل هو فعل الله عز وجل وحسب! وإنما وقع اقتران بين فعل العبد، وقدرته غير المؤثرة، ويسمونه كسبًا، وخلق الرب وفعله، لهذا الفعل. ولهذا سلبوا الأشياء خصائصها، حتى قالوا: إنه ليس في النار خاصية الإحراق، وليس في الماء خاصية الري، ولا في السكين خاصية القطع، وإنما تقع هذه الأشياء عندها لا بها! وأنكروا الحكمة والتعليل، وصاروا مضحكةً للعقلاء.

وبالمقابل، فإن (القدرية) أنكروا القدر السابق، وزعموا أن العبد يخلق فعل نفسه، وجحدوا حقيقة (التيسير) المذكور في الآيات، وأتوا بنظرية (اللطف)؛ فيقولون: إن هذا التيسير هو أن الله تعالى، خلق للإنسان الأدوات، و الآلات، فقط. وأما المشيئة، فهي مشيئة العبد، دون مشيئة الرب، وأما الخلق فهو خلق العبد، دون خلق الرب. وهذا مذهب المعتزلة، ومن جرى مجراهم، من الشيعة، والخوارج.

(وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) يعني: ما يغني عنه ماله الذي افتخر به، واستطال، إذا هوى، وسقط في النار، وقيل بمعنى مات، من قولهم: ردى الرجل. ولكن استبعد بن جرير، رحمه الله، هذا المعنى؛ قال: لأن العرب لا تستخدم تردى إلا في التعبير عن السقوط من شاهق.

(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) يعني: بيان طريق الهدى. فهذا مما أوجبه الله - تعالى - على نفسه؛ أن يبين للناس طريق الحق، وطريق الباطل، طريق الهدى، وطريق الضلال. وهذه هداية دلالة، وبيان، وإرشاد.، وهي إقامة الحجة الرسالية.

(وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى) أي: لنا ملك الآخرة، والأولى، نهبها من نشاء، ونمنعها من نشاء، حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية.

(فَأَنْذَرْتُكُمْ) أي: خوفتكم، وحذرتكم؛ لأن النذارة هي الإعلام بما يسوء.

(تَلَظَّى) أي: تتلهب، وتتوهج، وتتوقد. وقد أوقد عليها لآلاف السنين، حتى صارت سوداء مظلمة. وهي موجودة الآن، تنتظر أهلها.

(لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى) أي: لا يدخلها، ويقاسي حرها، فتشويه، إلا الأشقى. (الأشقى) أي: البالغ في الشقاوة أقصاها. وهو الكافر. ولهذا وصفه الله، تعالى، بقوله:

(الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) كذب بنبيه صلى الله عليه وسلم، وتولى عن طاعته. وهذا ينطبق على كثير ممن كان النبي صلى الله عليه وسلم، بين ظهرانيهم من المشركين.

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) أي: يبعد عن تلكم النار التي تلظى. و (الأتقى) بمقابل (الأشقى)، لأن (الأتقى) هو من بلغ الغاية في التقوى. وقيل إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه؛ لأنه وصفه بقوله: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) أي: يتطهر. فقد كان أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، يبذل ماله في سبيل الله، يريد تطهير نفسه. ولا شك أن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - يدخل دخولاً أوليًا في هذه الآية، لكنها تنطبق على كل من بذل ماله، يريد تزكيه نفسه، وتخليصها من آفة الشح، ومن الذنوب، ويريدها كفارة لما بدر منه، فإنه يدخل في عموم هذه

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015