(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ) هذا هو المثال الثالث لفعل الله عز وجل، وسنته الكونية في الأولين. فرعون معروف، وشهرته في الكفر ظاهرة. فإنه لا يعلم أحد من بني ادم توسع في الكلام، وفي إطلاق القول بإنكار الرب، سبحانه وبحمده، مثل فرعون؛ فإنه ادعى الربوبية، وادعى الألوهية، فقال لقومه: (أنا ربكم الأعلى) وقال: (ما علمت لكم من اله غيري)! ولذلك أذله الله أيما إذلال. قال الله تعالى: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ) وكأنه أراد فرعون ومن وافقه. اختلف المفسرون في المراد بـ (الْأَوْتَادِ) فقيل: المراد بها أوتاد التعذيب، وذلك أنه كان يتد الوتد في الأرض، من الخشب، أو من الحديد، ويربط به الناس، ويعذبهم. يضرب أربعة أوتاد، كما أعضاء الإنسان الأربعة؛ يداه، ورجلاه، فيربط كل يد بوتد، وكل رجل بوتد. وقيل إن المراد بالأوتاد: الجنود، لأن جنود الملك بمنزلة الأوتاد التي تثبت ملكه. وقيل: المراد بالأوتاد الحبال. وكأن هذا، والله اعلم، من تفسير الشيء بلازمه، لأنه لا قيمة للوتد المضروب في الأرض، إلا بحبل يشد إليه، فقيل الحبال. فيكون المقصود الحبال التي تتصل بهذه الأوتاد. وقيل: إن الأوتاد عبارة عن مظلات، تحتها ملاعب يلعب بها. وهذا يدل على أن هذه المسقفات الرياضية، كانت موجودة منذ القدم، وهي ما يسمى الآن (الإستادات)، وأن فرعون كان يتخذ المظلات الهائلة، التي يجرى تحتها أنواع اللعب، والفنون.
(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ) عبر بالجمع، وقد كان الحديث عن فرد، وهو فرعون. وهذا يعزز أن الأوتاد معناها الجنود. وربما يراد بفرعون آل فرعون، وملؤه، وجنده عموماً، يعني فرعون ومن وافقه، فعبر عنهم بزعيمهم، ورئيسهم. ومعنى طغوا: أي تجاوزوا الحد، وتجبروا. وقد كان فرعون طاغية؛ كان يذبح أبناء بني إسرائيل، ويستحيي نساءهم. هذا في تعامله مع الخلق، وأما مع الخالق، فقد طغى، وتكبر، وزعم أنه الرب، وأنكر وجود الرب، وقال: (وما رب العالمين) فينطبق عليه انطباقا تاماً وصف الطغيان.
(فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) لم يفسدوا فقط، بل أكثروا من القتل، والمعاصي، والكفر. كل هذا فساد. وإذا حل الفساد فما أوشك وقوع العذاب. (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس).
(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) هذه الآية ترتجف منها قلوب المؤمنين العارفين بالله عز وجل. عبر بالصب والصب يعني الإنزال، لكنه إنزال متتابع. (سَوْطَ): يعني نوع عذاب لاذع، متتابع. لأن السوط فيه معنى اللذع. فالسياط تلذع الجلود.
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) إنِّ تفيد التأكيد، والتحقيق. يعني أنه سبحانه وتعالى يرصد أعمالهم، ولا يفلت منهم أحد. لأنه يأتيه على حين غرة. وهكذا الله سبحانه وتعالى يمهل للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته.
فهذا المقطع، فيه نوع جديد من التأثير على منكري البعث، ومكذبي نبينا صلى الله عليه وسلم، وتذكير لهم بحال الأمم السابقة، وما جرى منها من تكذيب، وكيف أخذها الله (أخذ عزيز مقتدر).
الفوائد المستنبطة
الفائدة الأولى: تعظيم القسم بتنوع المقسم به.
الفائدة الثانية: بيان قدر العقل ومنزلته.
هذا يدل على الثناء على العقل حقيقة. ولا شك أن العقل نعمة. العقل من أشرف الأدوات التي منحها الله تعالى للإنسان؛ ذلك أن العقل هو الأداة التي يستخدمها القلب للوصول إلى الهدى، لكن أين يصنع القرار في القلب أم العقل؟ في القلب لأن الله سبحانه وتعالى قال (لهم قلوب لا يفقهون بها) وفي آية أخرى
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) إذاً القلب الذي في الصدر هو صاحب القرار النهائي. أما الدماغ الذي هو المخ، فهو بمنزلة المولد (الدينمو) فإذا كان عندنا مصباح كهربائي فإنه لا يضيء حتى يسري فيه هذا التيار. مثال آخر: العقل بالنسبة للقلب، مثل السكرتير بالنسبة لمدير العمل. السكرتير يقدم لمدير العمل أوراقاً، وتقارير، ونتائج، وإحصاءات، ثم ينظر فيها صاحب العمل، ويتخذ القرار. فالعقل أداة، لكن صاحب القرار هو القلب. لذلك أن الله سبحانه وتعالى علق الثناء، أو الذم عليه قال الله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) .. طيب
الفائدة الثالثة: عظيم قدرة الله حيث أهلك هذه الأمم الجبارة.
الفائدة الرابعة: قوة الأمم السابقة في أبدانهم، وآثارهم.
الفائدة الخامسة: إمهال الله للظالم، وأخذه أخذاً شديداً. فلا يغرنك ما ترى من تجبر المتجبرين، وطغيان الطاغين، فإن لهم يوماً، وهذا سنة الله تعالى في خلقه.
الفائدة السادسة: كمال رقابة الله، واطلاعه، وإحاطته: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) فإذا أغلقت الأبواب، وأرخيت الستور فاذكر قول الله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ). قال بعض الصالحين: (لا يكن الله أهون الناظرين إليك).
¥