أعمدة الخيام المرتفعة. وقد استدل غير واحد من المفسرين، على أن القوم كانوا رُحَّلاً، وأنهم لا يستقرون في موضع، بل ينصبون خيامهم الهائلة الكبيرة، ثم يرتحلون، كما هو حال الأعراب. وذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود ب (الْعِمَادِ) أي الأعمدة المبنية من الحجر، أو من الرخام. وعلى كل تقدير، فإن هذا أيضًا يدل على أن القوم عظيمو الخلقة، لأنه لا يمكن أن تكون أعمدة خيامهم طويلة مرتفعة، إلا وهم كذلك. فإن الإنسان يرفع سقف بيته بما يتناسب مع خلقته. فلا شك أن هذا تفخيم لحالهم، وعظم خلقهم. وفي هذا إشارة إلى تهوين قريش أمام هؤلاء، فقد كانوا أشد منهم قوة، أثاراً في الأرض. ومع ذلك فعل الله بهم ما فعل.

(لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا) أي مثل تلك القبيلة في بطشها، وقوتها. وقد أهلكهم الله بالريح، مع أن الهواء ألطف المخلوقات، فصاروا (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) سلط الله تعالى عليهم ريحاً صرصراً (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) فكانت الريح تحمل أحدهم في الأعالي، ثم تدقه في الأرض. وكان بعضهم يدفن نصف جسمه، في الأرض ليتقي الريح أن تحمله، فتجتثه، فيبقي كأنه أصل نخلة مقطوعة: (أعجاز نخل منقعر). فالله عز وجل يسلط جنداً من جنده، من ألطف الأشياء، وهو الهواء، فيحيله إلى قوة جبارة، (تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم). وربما دلت هذه الآية على أنه كان لهم، فعلاً، بيوتاً مبنية، لأنه لو قدر أنها كانت خياماً، فالغالب أن الريح ستقتلع الخيام، وتطير بها كل مطار، ولم يبق مساكن ترى.

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) هذا عطف على عاد. أي: وكيف فعل بثمود؟ وثمود قبيلة كانت تسكن الحجر، وادي القرى، الواقع بين مكة والشام. ومعنى (جَابُوا الصَّخْرَ) أي: شقوه، وقطعوه. وذلك أن موطنهم، وادي القرى، كان جزء منه جبال، وجزء منه سهول، فكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، ويتخذون من سهولها قصوراً. وذلك غاية ما يكون في العمران. ولا تزال أثارهم باقية، وهي المسماة الآن بمدائن صالح. يأتون إلى الجبل الأشم، فيُعملون فيه المطارق، وينقشونه، ويتخذون فيه الغرف، والمساكن. والصخر من أقوى المخلوقات. ثم كان أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم بالسوط. والسوط هو تلكم الصيحة الهائلة، والرعب الهائل، الذي قطع نياط قلوبهم في صدورهم. ما أهون الخلق على الله. وهذا الكلام يساق لقريش، وهم كما قال الله (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) في طريقهم في تجارة الشام، يمرون بوادي القرى. وبهذه المناسبة فإنه ينبغي أن يعلم أن من الآداب الشرعية، ألا يتفكه الإنسان بزيارة تلك الآثار، وأنه لا يحل أن يدخلها على سبيل النزهة، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن ذلك.

فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحِجْرِ قَالَ: (لاََ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ) ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ، وَأَسْرَعَ السَّيْرَ، حَتَّى أَجَازَ الْوَادِيَ. وذلك لتعظيمه جناب الله وأيام الله، خلاف ما يفعله بعض السفهاء، الآن، يأتون إلى هذه الأماكن، والبقاع التي حل فيها وعيد الله، عز وجل، فيتفكهون، ويتندرون، ويتنزهون، باسم السياحة، وباسم تعظيم الآثار، ولا يعتبرون. نعم! لو دخل الإنسان على سبيل العبرة، فلا حرج، يدخل، وينظر هذه المساكن الهائلة، ويستعبر، ويتعظ، فلا بأس. لكن الأعم، الأغلب، أن الناس الذين يغشون هذه الأماكن، يأتونها على سبيل النزهة، والمرح، والفرح. فإما أن يدخل على الصفة التي ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) أو يدع.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015