(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ): أعاد الله تعالى القسم بالسماء، ولكنه هذه المرة بوصف جديد. (ذَاتِ الرَّجْعِ) والمراد بالرجع: المطر. وسمي المطر رجعاً، لأنه يرجع، ويعود مرة إثر مرة, وإنما أضاف الله تعالى الرجع إلى السماء لكونه يأتي من جهتها. وكل ما علاك فهو سماء. وقيل إن المقصود بالرجع: الشمس، والقمر، والنجوم, لأنها تشرق، وتغرب، ثم تعود. فوصفت بالرجع. والأول أقرب، وهو ما عليه جمهور المفسرين.
(وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ): هذا من التقابل, فبينا الإنسان يرفع طرفه إلى السماء، إذ به يحطه إلى الأرض. فكل ما حولك دلائل ربوبية؛ ترفع رأسك، تلتفت يميناً، وشمالاً، كل ما في الكون هو من دلائل البعث، ودلائل الربوبية.
(وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) الصدع: يعني الشق. لأن الأرض تتشقق بالنبات، كما قال في سورة "عبس": (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا) إلى آخر الآيات. وهذا القسم مناسب لموضوع السورة, فالسورة تريد تقرير أمر البعث، وإقامة الأدلة عليه، فأقسم بالسماء بوصفها (ذَاتِ الرَّجْعِ)، والأرض بوصفها (ذَاتِ الصَّدْعِ)، وهذا إلماحة إلى دليل آخر من دلائل البعث، وهو أن الله سبحانه وتعالى، يحيي الأرض الميتة، فيسوق إليها الماء، فتنبت العشب والكلأ الكثير: (وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا). فالذي يحيي الأرض الميتة، قادر على إحياء بني آدم، وإخراجهم من قبورهم أحياء. ولما ذكر الله عز وجل في سورة "ق" قوله: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) قال إثرها: (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)! فالذي يحيي الأرض الميتة بهذا الماء المساق من البحار، فتنبت، وتصبح ذات مروج، ونخيل باسقات، قادر على إخراج الإنسان حياً بعد موته.
(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ): مرجع الضمير إلى القرآن, وهو إن لم يرد له ذكر، لكنه لما قال: (قَوْلٌ) علم أنه القرآن. ومعنى (فَصْلٌ) أي فيصل، وفرقان بين الحق والباطل, وهدى, وضياء, ونور, وشفاء, كل هذه الأوصاف تنطبق انطباقاً تاماً على كلام الله عز وجل. ولهذا قال الله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) , وقال: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت).
(وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ): إذاً هو جد كله, ليس لعباً, ولا باطلاً, وليس المقصود به المسامرة, والتلذذ به كما يتلذذ بالشعر, وإنما هو جد, وحق, وموعظة, وهدى, وبيان, وشفاء، فخذوا الأمر بجد, فهذا الذي يتلى عليكم ليس أساطير الأولين, ليس شعراً, ليس سجعاً, ليس كلام كهان, بل هو حق يوجب عليكم أن ترعوه أسماعكم, وأن تعتقدوه بقلوبكم, وأن تقيموا حياتكم وفق هديه. إن الذي يمتلأ قلبه بهذا المعنى، يرزق بركة القرآن, فكل أمر اشتبه عليك من أمورك الخاصة, أو أمور الناس العامة، إذا أقبلت على القرآن بقلب صادق, ونفس مستشرفة، تعتقد أن الهدى, والشفا, والبيان هو في هذا الكتاب فوا الله، لتجدن فيه بغيتك، وطلبتك. لكن إذا حرم الإنسان هذا الاعتقاد، وهذا اليقين، حرم الثمرة. فليعود الإنسان نفسه على أن يعظم القرآن, ويعتقد أنه كلام رب العالمين، ليس كأي كلام, وأن كل ما يحتاج الناس إليه في معاشهم، ومعادهم، فهو في كتاب الله عز وجل, في كتاب الله جوابه، وشفاؤه, لا يلزم من ذلك أن يكون فيه ذكر التفاصيل لكن فيه ذكر الأسس, والمبادئ, والمفاتيح التي تقود الإنسان إلى معرفة الحق، وتحصيل الطمأنينة.
¥