لك أن تتمسك بعموم قوله تعالى ((تبياناً لكل شيء)) أن لو لم يكن هناك ما يخصص هذا العموم، ويكفي في تخصيصه معرفتنا بأن الأنبياء إنما بعثوا لتبليغ الرسالة، وفيما سوى ذلك هم بشر مثلنا.

3. إذا عرف الإنسان حقائق الأشياء أصبح من السهل عليه أن يعرف ربه. وإليك هذا المثال: امرأة تذهب بوليدها إلى المشعوذين طلباً للشفاء. فإذا قمنا بشرح حقيقة مرض وليدها وطرائق معالجته، سهل علينا اقناعها بجدوى الذهاب إلى الطبيب." وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً". ومعرفة حقيقة الشمس والقمر والأفلاك يساعد في اقناع من يعبدها أنها لا تستحق العبادة، بل هي مسخرة لمصالح الإنسان.

أخالفك في أن كمال معرفتنا بأمر الشمس والقمر يساعد في إقناع من يعبدها أنها لا تستحق العبادة؟؟ فذلك أمر وهذا أمر آخر.

وعلى سبيل المعارضة، انظر ما جنى العلم الحديث على الغرب، إذا قاد بعضاً من علمائهم إلى الإلحاد ونكران الخالق سبحانه وتعالى. وظنوا أنهم بما أوتوه من علوم الدنيا ملكوا أسباب الحياة.

4. إنكار الإعجاز العلمي بإطلاق هو ما نعارضه، أما طلب الدليل على صدقية الاستنباط فأمر مشروع. ومن هنا لا يجدي التمسك بالأمثلة المتهافتة لتكون الدليل على رفض الإعجاز العلمي. فعندما قلت لك إن العلم يجزم بأن النسيج العظمي في الجنين يتكون قبل اللحمي، بما يوافق قطعي القرآن الكريم:" فكسونا العظام لحما" ذهبت لمناقشة أمور أخرى ولم تجب عن هذه المسألة. وهل مثل هذه الآية لا تمس العلم؟

قد بينت أخي الكريم في آية ((كأنما يصعد في السماء)) كلاماً أحسبه قاطعاً في رد ما ذهب إليه أرباب الإعجاز العلمي في تفسيرها.

أما في باب ((فكسونا العظام لحماً)) فقد ظننت أنني إذ سبقت إليك بموضوع النطفة والعلقة والمضغة أجبتك على ذلك، ذلك أن الفقهاء الأولين عرفوها، وتبينوها، وأفتوا بها، فكيف ومرحلة العظام تأتي بعد ذلك؟

لا شك أنها ستكون معروفة ...

فإن كان هناك شيء لم أفطن إليه في جوابك، فبينه بارك الله فيك.

5. أكرر أن فهم المفردات لا يعني فهم الجملة. فقد يفهم الخليل بن أحمد كل مفردة من مفردات قوله تعالى:"وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي"، وقد يجهل السبب الحقيقي وراء التأنيث في قوله تعالى:"اتخذي" فيذهب إلى القول: إن التأنيث كان هنا لأن النحل من الحشرات، أو يقول إن ذلك يجوز في لغة أهل الحجاز. وليس بالضرورة أن يعرف الخليل بن أحمد حقائق عالم النحل فيدرك أن الأنثى هي التي تصنع العسل. وهنا أنبهك أخي بكر إلى أن الأصل في العربية تذكير كلمة النحل، فالعدول عنه إلى التأنيث فيه دقة تمنع التعارض مع الواقع. وهذا مثال قد يصلح لتوضيح مبدأ عدم التعارض الذي ذكره الشيخ بسام جرار.

قولك إنه قد يُجهل السبب الحقيقي من وراء التأنيث لا يسلم لك. فما يدريك أن ما وصل إليه أرباب الإعجاز العلمي في هذا الباب – لو سلمنا لهم به- هو السبب الحقيقي؟؟

أنت أيضاً لا تستطيع أن تجزم.

أما أن التأنيث هو لغة الحجاز أو تميم، فأظن أنه لا بد من قبوله، فهذا قول علماء اللغة الذين أخذوا اللغة عن أهلها والناطقين بها، فإن كان يجري على لسان بعضهم التذكير، وعلى لسان آخرين التأنيث، ولا ضير بعدها أن ينزل القرآن بالتأنيث أو التذكير.

كما أن الهمز كان لغة تميم، وترك الهمز كان لغة الحجاز.

وكما أن "ما" الحجازية تنصب، و"ما" التميمية لا تنصب، فهذه كلها من لهجات العرب، وبها جرت ألسنتهم، فلا يجوز أن نزعم إن الأمر كان لشيءٍ أبعد من اللهجات. هذه دعوى لا بد لها من دليل.

والقول بأن هذا التأنيث إنما كان لمراعاة الحقيقة العلمية لا يسلم لك، فما يدريك أن هناك ما هو أبعد من ذلك؟

ثم لماذا أنثوا الشمس وذكروا القمر، ولا مدخل لها في التذكير والتأنيث؟ ولماذ لم يكن هناك وصف آخر أو شيء آخر يجرونه فيما هو ليس بالمذكر والمؤنث؟

وغير ذلك كثير في اللغة ...

وقد ذكرت لك أخي قبل أن عدم التعارض الذي قال به الشيخ بسام جرار إنما هو عمل المفسر في درء التعارض، والمصير إلى تأويل سائغ عند وجود تعارض ظاهر، فكيف يجعل عدم التناقض (درء التعارض) الذي هو من عمل المفسر دليلاً على إعجاز القرآن؟؟

وبارك الله فيك.

ـ[أبو عمرو البيراوي]ــــــــ[07 Oct 2009, 01:10 م]ـ

الأخ الكريم بكر،

1. ماذا تقول في قوله تعالى: "وأنزلنا الحديد"، هل كان العرب يعرفون أن الحديد قد نزل من السماء كما ينزل المطر، ثم ما بال جمهرة أهل التفسير يُخرِجون معنى "أنزلنا" عن ظاهرها؟ ّ!

2. هناك فرق بين قولك:" اذهب فاصعد في السماء"، الذي ظاهره التعجيز، وبين قولك:" يضيق صدره كالذي يصعد في السماء"، والذي قصد به تبيان حقيقة الضيق والحرج الذي يحصل في الصدر، ولا يقصد به التعجيز كما هو ظاهر. ولا نقبل أن يستبدل البعض السماء بالجبل، بل إن مثل هذا الاستبدال يدل على أن المقصود وفق أفهامهم ليس التعجيز. إذن النص الكريم لا يشير اطلاقاً إلى الاستبعاد وليس المقام مقام تعجيز، بل هو اثبات وتقرير. أما المسألة البلاغية فقد تم مناقشتها طويلاً.

3: "تدمر كل شيء بأمر ربها" المقصود كل شيء أمرها الله أن تدمره، وليس كل شيء مرّت عليه. وإذا كان:"تبياناً لكل شيء" مما يختص به الأنبياء من أمور الهداية فلا شك أن الإعجازات المثبتة للنبوّات تدخل في ذلك، كيف لا وهي تقدم الإثبات وتزيد الإيمان!! بل إن القضية الإيمانية مقدّمة على التشريعية ولا ينفصلان.

4. لا يمكن أن يكون العلم سبباً للإلحاد، وإنما ذلك ينتج عن الانحراف السلوكي. ومن هنا قال العلماء:" الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي".

5. ليس فقط النحل عدل به من التذكير إلى التأنيث، بل أيضاً العنكبوت:" كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً" على الرغم من أن التذكير أظهر، مع اقرارنا بجواز الوجهين. فالتزام التأنيث عندما يكون التذكير أظهر يلفت الانتباه، وعندما نجد أن أنثى العنكبوت هي التي تتخذ البيت ندرك الدقة التي تمنع حصول التناقض مع الواقع (مبدأ عدم التناقض) الذي ذكره الشيخ، ولا أتكلم عن مبدأ التوافق.

سددنا الله وإياك.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015