2. قوله تعالى:"كأنما يصعد في السماء" لا يذكر الأوكسجين، ولا يذكر الضغط الجوي، وإنما يقرر حقيقة أن من يصعد في السماء يضيق صدره. ونحن نؤكد أن الكلام إذا لم يفهمه البعض في بعض العصور، فإن الكل في عصر محدد هم بعض المخاطبين. وأنا معك أن قوله تعالى: "بلى قادرين على أن نسوي بنانه" لا يشير إلى البصمة أو غيرها، ولكن لا مانع أن يذكر هذا ليساعد في فهم الاحتمالات التي يحتملها النص .. ولكن قوله تعالى:" وجعلنا من الماء كل شيء حي" فيشير إلى أن الأحياء خلقت من ماء، وأنت تريد أن تخصص هذه الآية لتنفي أن الآية نص في حقيقة علمية، لأنك تنكر أن يكون كلام الخالق مطابقاً للواقع، أي حقيقة علمية.

واسمح لي أن أخالفك ها هنا بما سبق أن بينته في مدراسة في آية ((كأنما يصعد إلى السماء))، فقد ذكرت أن العرب فهموها بمعنى المشقة، وذكر المفسرون أنها من الأمثلة التي تضرب على التكليف بما لا يطاق، كما يقال مثلاً " فلان بدو يقيم الدين في مالطا" دلالة على تكلفه ما لا يطاق، وطلبه ما ليس في الوسع، وكذلك "روح بلط البحر"، وكذلك أيضاً " روح طير"، فأنت تأمره بالطيران في السماء؟!

فهي أمثلة تضرب وتجد الكثير منها مما لا يفهم فهما حرفياً أو إفرادياً، بل لا بد من النظر في ذلك القول والمقصود به، وكذلك قول العرب "اصعد في السماء" لا يفهم فهماً إفرادياً، بل نطلب فيه فهم التركيب، وأنه مثل يقال في التكليف بما لا يطاق.

فإذا كشف العلم الحديث عن أن الأكسجين ينقص في طبقات الجو بالصعود في السماء، فنحن لا ننكر هذا، وإنما ننكر أن تكون للآية علاقة بهذا الكشف الجديد، حتى وإن كان الواحد منا يأنس بتفسير كهذا، ولكنه – والله أعلم- ليس من الحق في شيء، وقد ذكرت عليه ثلاثة اعتراضات:

1. فهم الآية على ما يقوله أرباب الإعجاز العلمي فيه خروج على أصول البلاغة وحسن الإفهام.

2. العرب فهموها وفهموا أنها بمعنى التكليف بما لا يطاق، وهذا الفهم كان على معهود العرب الأولين، فلا يقال إن العرب الأولين لجؤوا إلى التوليد لما عجزوا عن تصور المعنى، فإن أبيت أخي فلي أن أزعم أننا لجأنا إلى التوليد في المثل الجاري عندنا "روح بلط البحر"، ولكن ربما يأتي زمان نكتشف فيه أن أرض البحر غير صالحة للتبليط ... إلخ، فيكون هذا إعجازاً في مثلنا نحن.

قد تستبعد هذا أخي، ولكنه محتمل، وإن أسعفتني الذاكرة فلعلني آتيك بأمثلة أخرى مما يجري على ألسنتنا تحتمل التفسير العلمي.

3. الأصل أن نتبع في فهم الكلام معهود الناس في كلامهم وتصرفهم فيه، فلفظ "طول اليد" كان يدل في السابق على الصدقة وبذل الخير، وهو الآن يدل على السارق أو الحرامي، فإذا أوردنا الآن في كلامنا انصرفت أذهاننا إلى طول اليد بمعنى السرقة، لا بمعنى البذل والجود، والإنفاق، فلا يحق لك أن تقول إذا وصفت رجلاً بذلك في أيامنا هذه أنك قصدت إلى بذله وجوده، كما لا يحق لك أن تحمل هذه الكناية إذا وردت في كلام العرب الأولين على معنى السرقة ...

وكذلك الأمر في القرآن، فهو إنما نزل على معهود العرب الأولين أهل اللسان، فنتبع في فهمه وتفسيره معهودهم هم، لا معهودنا نحن.

2. أما قوله تعالى:"تدمر كل شيء" فالمقصود به كل شيء أمرها الله أن تدمره. بدليل قوله تعالى:"تدمر كل شيء بأمر ربها". مع إقراري بخطأ قولي إن التخصيص لا يكون إلا في الأخبار.

بارك الله فيك، وأحسن إليك ...

نعم أخي، المقصود أنها تدمر كل شيء مرت عليه، ولقد استفدنا هذا التخصيص بالرغم من أن اللفظ جاء عاماً "كل شيء".

وكذلك الأمر ها هنا في قوله تعالى "تبياناً لكل شيء"، فإننا نستفيد التخصيص من أن الرسل إنما بعثوا لتبليع الرسالة.

قال تعالى ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً))

وقال جل وعلا ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً))

وإنما قصدت بذلك أخي الكريم أن فهم المفسرين بأن المقصود كل شيء من أمر الدين، وليس كل شيء على العموم أمر تقبله اللغة، ويكون من العام المخصوص.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015