ولا يلزم من قوله تعالى: (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (البقرة: الآية147) أن يكون الامتراء واقعاً من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن النهي عن الشيء قد يوجه إلى من لم يقع منه ألا ترى قوله تعالى:) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (القصص:87) ومن المعلوم أنهم لم يصدُّوا النبي صلى الله عليه وسلم عن آيات الله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع منه شرك والغرض من توجيه النهي إلى من لا يقع منه: التنديد بمن وقع منهم والتحذير من منهاجهم، وبهذا يزول الاشتباه، وظن ما لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم.

أنواع التشابه في القرآن

التشابه الواقع في القرآن نوعان:

أحدهما: حقيقي وهو ما لا يمكن أن يعلمه البشر كحقائق صفات الله عز وجل، فإننا وإن كنا نعلم معاني هذه الصفات، لكننا لا ندرك حقائقها، وكيفيتها لقوله تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طه: الآية110) وقوله تعالى:) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام:103)} ولهذا لما سُئِل الإِمام مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5) كيف استوى قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإِيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا النوع لا يسأل عن استكشافه لتعذر الوصول إليه.

النوع الثاني: نسبي وهو ما يكون مشتبهاً على بعض الناس دون بعض، فيكون معلوماً للراسخين في العلم دون غيرهم، وهذا النوع يسأل عن استكشافه وبيانه؛ لإِمكان الوصول إليه، إذ لا يوجد في القرآن شيء لا يتبين معناه لأحد من الناس، قال الله تعالى:) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:138)، وقال: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء) (النحل: الآية89)، وقال:) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (القيامة:18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة:19)، وقال: {) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (النساء:174).

وأمثلة هذا النوع كثيرة منها قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: الآية11) حيث اشتبه على أهل التعطيل، ففهموا منه انتفاء الصفات عن الله تعالى، وادَّعوا أن ثبوتها يستلزم المماثلة، وأعرضوا عن الآيات الكثيرة الدالة على ثبوت الصفات له، وأن إثبات أصل المعنى لا يستلزم المماثلة.

ومنها قوله تعالى: {) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93) حيث اشتبه على الوعيدية، ففهموا منه أن قاتل المؤمن عمداً مخلد في النار، وطردوا ذلك في جميع أصحاب الكبائر، وأعرضوا عن الآيات الدالة على أن كل ذنب دون الشرك فهو تحت مشيئة الله تعالى.

ومنها قوله تعالى: {) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) حيث اشتبه على الجبرية، ففهموا منه أن العبد مجبور على عمله، وادعوا أنه ليس له إرادة ولا قدرة عليه، وأعرضوا عن الآيات الدالة على أن للعبد إرادة وقدرة، وأن فعل العبد نوعان: اختياري، وغير اختياري.

والراسخون في العلم أصحاب العقول، يعرفون كيف يخرجون هذه الآيات المتشابهة إلى معنى يتلاءم مع الآيات الأخرى، فيبقى القرآن كله محكماً لا اشتباه فيه.

الحكمة في تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015