ولا نعيب على السابقين فهمهم، لكن ما ورد في بعض التفاسير على المسائل العلمية التي ظهر بالدليل القطعي بطلانها، فإننا نردها، نحو ما نجده في بعض التفاسير أن للأرض حدا نهائيا وطرفا بعده تنزل الشمس لتغيب في عين من صلصال آسن ... ويقول البعض أن الخضر عليه السلام وصل إلى حد الأرض ووجد عندها عين الحياة ... فهذا كله نردّه ... أو أن الشمس تغيب عن جميع الأرض لتسجد عند العرش ... فما ثبت من ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نفهمه وفق اللسان العربي بالمجاز لأن الأرض والشمس تدوران تعاقب الليل والنهار فيكون المقصود معاني السجود الأخرى ...

أن نتأول القرآن على وجه سائغ جارٍ على لسان العرب إذا ما خالف ظاهره أدلة العقل مما لا خلاف فيه.

وإنما الاعتراض على من جعل من هذا التأويل إعجازاً ...

وهذا من عجائب أنصار الإعجاز العلمي ...

وبإمعان قليل للمثل الذي ضرته أثناء كلامك أخي الحبيب يبتبين لنا وجه الحق بإذنه تعالى:

يقول الله سبحانه وتعالى مظهرا آيات قدرته على إعادة الخلق:

(أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) (القيامة:3 - 4)

فما من شك بأن هذه الآية الكريمة تظهر عظيم قدرة الله تعالى على إعادة الخلق بعد فنائه على أكمل وجه وأكبر دقّة، فلو فهم الصحابة وغيرهم أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يسوي أي جزء من أجزاء الإنسان مهما صَغر، حتى أصبعه وطرف أصبعه؟ لا يعيب أحد عليه فهمه، لكن أخي الكريم

الأتجد أن آيات القدرة والعظمة الإلهية تتجلى لنا بصورة أكبر إذا علمنا بأن هذا الأصبع وطرفه يحوي من الأمور والعلامات التي تفرّقه عن جميع البشر، فيصبح فهمنا للآية الكريمة، أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يعيد خلق الإنسان بأدق تفاصيله، فلا يغيب عليه من إعادة الخلق شيء حتى تلك العلامات الموجودة في بنانه والتي لا يتماثل فيها أحد من البشر فالله تعالى يعيد الإنسان بذاته فلا تتداخل في إعادة الخلق أدق الأمور. فيتحقق الإنسان بأن الله تعالى عالم بأدق مما يعلم الإنسان عن نفسه قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة:18)

محل النزاع ليس في قدرة الله سبحانه وتعالى على البعث، وليس في قدرة الله على إحياء العظام وهي رميم ...

نحن لا ننازع في شيء من هذا ...

محل نزاعنا أن أنصار الإعجاز العلمي يدعون أن هذه الآية دالة على بصمة الإصبع، فأين تجد الدلالة على هذا في قوله تعالى (بلى قادرين على أن نسوي بنانه)،

أبالمطابقة أم بالتضمن أم بالالتزام؟

أم بالاقتضاء أم بالإشارة أم بالإيماء والتعليل؟

أن تقول إن الله قادر على جمع العظام وإعادتها وتسوية أصابع اليد بما فيها من عروق وجلد وشعر وحتى البصمات التي كشف عنها العلماء حديثاً مما لا ننازع فيه.

إما أن تقول إن هذه الآية تكشف عن حقيقة البصمات التي لم تكن معروفة وقت نزول القرآن، فليس هذا من الحق في شيء، بل هو تحميل لآيات القرآن ما لا تحتمل.

فالمثال القرآني أعظم وأبلغ وأرفع وأجل من المثال الذي أوردته في كلامك السابق حيث تقول: ((أن العرب تقول في وصف الحاذق الماهر في صنعته: إن له عليها إصبعا

أي إن له على ما يصنع أثر حذق ومهارة فدلوا عليه بالإصبع. فما يمنع من حيث دلالة الألفاظ أن يكون قائل هذا المثل قبل أكثر من ألف سنة أراد أن يشير إلى هذه الحقيقة التي كشف عنها العلماء حديثاً؟؟))

والمانع كبير جدا، فهذا الكلام الذي أوردته دليل على جانب من جوانب اللغة وهو المجاز، ومن هذا الوجه (أنه دليل على المجاز في لغة العرب) أسلم لك به.

لكن ما من وجه لمقارنته بما ورد في الآية الكريمة، فكلام القائل يشير به إلى أنه استخدم هذا الأصبع بدقة أظهرت جودة صناعته. وليس هناك من دليل قريب أو بعيد ما يشير إلى أن القائل يدلل على قدرته وعلمه بخلق هذا الأصبع وبمحتواه، وكلامه ليس في محل الاستشهاد على دقة الخلق لنقول بأنه يحتج به في أنه سابق لعصره، فهذه العبارة تستخدم لهذا اليوم وإن اختلفت أوجهها؛ (ألا نقول لمن تحسن صناعة الطعام، إن لها نَفَسا في طبيخها) وبهذا تنتفي الحجة في هذا المثل.

كلامك ها هنا خارج عن محل النزاع ...

لا شك أن سياق الكلام في الآية إنما هو لإثبات قدرة الله على إحياء الموتى في الرد على منكري البعث، وكذلك سياق الكلام في المثال العربي إنما هو لبيان أثر الحذق والمهارة ...

لكن بحثنا ها هنا في الدلالات، إذا كان أرباب الإعجاز العلمي يدعون أن هذه الآية تكشف عن حقيقة البصمات قبل 1400 سنة، فلنا أن نزعم في مقابل هذا أن المثل العربي دال على البصمات.

وليست الآية بأدل على البصمات من المثل العربي.

وغاية القول: إن التفسير العلمي لا يؤخذ بمنأى عن اللغة العربية وفهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولا يلزم منه القول بأن الله خاطب الصحابة بما لا يفهمون.

بل يلزم من التفسير العلمي للتصعد في السماء أن الله خاطب العرب بما لا يعهدون، وجاءهم بتشبيه لا يعرفون من وجه الشبه فيه شيئاً ...

وهذا خروج على اللغة، وعلى أصول البلاغة وحسن الإفهام.

وهذه النقطة بالذات لم يأت الإخوة عليها برد شاف ...

ولا أظنني أبالغ إذ أقول - وقد سبق لي أن قلت- إن اعتراضات أنصار الإعجاز العلمي في هذه الآية أشبه بجناح هرم مرسل.

وصدقني: ليس وصفي للردود بهذا من باب المبالغة، أو المكابرة، بل إني أراه في محله.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015