الحديثةِ وما أَحرَزَه فيها أَصحَابُها بِصِلَةٍ، والأطباءُ والمهندسون والفيزيائيون في هذا عيالٌ على الفقهاء وعلماء الدين. وإذا كان الكلام في العلوم الحديثة لا يكون إلا لمتخصص فيها، فكذلك علوم الشرع، واللغة، لا يجوز أن يتصدر لها إلا من ألم بشيء من فقه اللغة وأصول الفقه يُمكِّنُه من الخوضِ فيها. بل إنَّ الحقَّ الذي لا ريبَ فيه أنَّ هذه العلومَ الشرعيَّةَ من فقهٍ وحديثٍ وتفسيرٍ وكلامٍ هي أَجَلُّ المَعارفِ وأَعْظَمُها، وأَرْفَعُها دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ، وأنَّ أهلَها وأرْبابَها العُلَماءَ من المُتَكَلِّمين والفُقَهاءِ والمُحَدِّثين والمُفَسِّرين وأهلِ العربيَّةِ هم أعلى النَّاسِ مَنْزِلةً بما استُحفِظوا من كتابِ اللهِ، وأَخَصُّ العُلماءِ في هذا الفُقَهاءُ.

هذان أمران تمسُّ إليهما الحاجة، في مبحثنا هذا، فأحببت أن أقدمَّ بهما، لندرك مكمن الخلل في كثير من اعتراضات القائلين بالإعجاز العلمي وأنصاره، ونكونَ منها على بينة.

وأعود إلى ما كان بيننا من مدارسة بخصوص هذه الآية المذكورة، فقد بيَّنَّا في السابق أن القول بالتفسير العلمي لهذه الآية فيه مخالفة لأصول البلاغة وحسن الإفهام من حيث إن الغرض من التشبيه إنما هو تقريب المعنى إلى السامع، وتمكينه وتثبيته في نفسه، والله سبحانه وتعالى يقول إنه إذا أراد إضلال عبدٍ من عبادِه جعل صدره ضيقاً حرجاً، فكيف يقرِّبُ معنى ضيق الصدر إلى المخاطبِ ويمكنه في نفسه بقولِه (كأنما يصَّعدُ في السماء) على تأويل أن الآية تشير إلى نقصان الأكسجين في طبقات الجو بالصعود فيه، والعرب لا تعرف شيئاً من هذا ولا تعهده؟ فلا بد إذن أن يكون للتصعد في السماء معنى معهود عند العرب الأولين، فيؤدي التشبيه مقصوده والغرض منه، وإلا كان في الكلام خروج على أصول البلاغة وحسن الإفهام ينزَّه عنه منصب الشارع.

ثم جينا بأقوال المفسرين الأولين لهذه الآية، والذي هو تفسير العرب الأولين وفهمهم لها، مما يبين أن هذه الآية كانت مفهومة لهم حق الفهم، ولم يكن فيها شيء غير ذي معنى، فمنهم من قال إنها مثل يضرب في التكليف بما لا يطاق، ومنهم من قال إن الكافر يكاد لضيق صدره وضجره بالإسلام لا يجد إلا أن يصعد في السماء نفوراً من الإسلام، وزيغاً عن الحق. كما أن الكثير منا إذا غشيه ما يكره، وجاءته المصايب من كل جهة أحس كأنما هو يختنق، فيقول: أحسن أنني أختنق، والخنق المحسوس الذي هو انقطاع النفس غير مقصود قطعاً. ولهذا نظائر كثيرة حتى في لهجتنا المحكية، نقول نحن في الأردن: فلان يريد أن يقيم الدين في مالطا، دلالة على صعوبة ما يطلب، وأنه ليس في الوسع، وليس المقصود بهذا المعنى الحرفي لهذه الألفاظ، وإنما هو مثل يضرب في التكليف بما لا يطاق، وتقول: فلان يمشي على بيض، وهو مثل يضرب في الدلالة على البطء الشديد وثقل الحركة، وليس المقصود وجود بيض حقيقي يمشي عليه، وكذلك التصعد في السماء ليس المقصود به التصعد في السماء على الحقيقة، وإنما هو مثل يضرب في التكليف بما لا يطاق، والأمثلة على هذا كثيرة في الكلام القديم، منها على سبيل المثال لا الحصر، قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ? (آل عمران:102)، فإنها تدلُّ بالمطابقةِ على النَّهيِ عن الموتِ، مع أنَّ الموتَ ليس مقدوراً للمكلَّفِ، فلا يكونُ مقصوداً بالآيةِ، وتُصرَفُ دلالتُها من النَّهيِ عن الموتِ الذي لا يُتَصَوَّرُ أن يكونَ مراداً - إذ هو غير مقدورٍ للمكلَّف- إلى النَّهيِِ عن مفارقةِ الإسلامِ حتى المماتِ، كقولِك (لا تمت كافراً)، أو (لا تمت ظالماً) أو (مُتْ شهيداً)، فإنَّ معناها المطابقيّ هو النَّهيُ عن الموتِ على حالِ الكفرِ أو حالِ الظلمِ، أو الأمرُ بالموتِ قتلاً بيدِ الأعداءِ، فلمّا عرفنا أنَّ الموتَ ليس فعلاً للمكلّفِ ولا مقدوراً له، عرفنا – بدلالةِ الالتزامِ- أنَّ المقصودَ بالنَّهيِ ليس النهيَ عن الموتِ حالَ الكفرِ، أو حالَ الظُّلمِ، وإنما النهيُ عن الكفرِ – الذي هو مقدورٌ للمكلَّفِ- حتى يأتيَه الموتُ، وعن الظلمِ – الذي هو أيضاً مقدورٌ للمكلّفِ- حتى يأتيَه الموتُ، وعرفنا بدلالةِ الالتزامِ أيضاً أنَّ الأمرَ ليس بالموتِ، بل بقتالِ الكفّارِ إلى أن

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015