ولَم يكُن للإسْلام من بُدٍّ إلاَّ أن يُهاجِم مَن هاجَمه، ويقاوِم مَن يُريد السَّطو على سفينتِه، وأن يسعى سعْيًا أكيدًا لقطْع رؤوس الظُّلم حيث برزتْ أنْيابُه، وردِّ سِهام الجوْر لما انطلقت من أوتار قوسه، وأن يعزم عزْمًا قويًّا على رفْع أثقال الظَّلام كلَّما ناء البشر بكلكله، ومَحو آثار الحيْف حين تقهر النَّاس قسوته.

فالإسلام حين يستَخْدِم القوَّة لا يفعل ذلك إلاَّ عن إدراك واقعي منه، بأنَّ السِّلاح إذا خرج إلى ساحة المصاولة، ورفعت أدواته في ميدان المحاربة، استعصى على العقل الاستماع، وسدَّت إليه منافذ النور، وجفت في النفس ينابيع رقَّتها، وتصلَّبت منها شرايين تسامُحها، وحينئذٍ لن يجدي نفعًا إلاَّ مواجهة القوَّة بقوَّة أخرى من جنسِها، تجدع أنفَها المتورِّم، وتحطِّم عنفوانَها المتغطرس، وتكسِر كبرياءَها المتعجرف، وتأتي على غرورها المستعلي.

فالقوَّة في الإسلام لا تُستخدم إلاَّ ضدَّ قوَّة أخرى برزتْ أشواكُها، ورفعت سنابكها، بغضِّ النَّظر عن دين صاحبِها وعقيدة حامِلِها، حتَّى إنَّ الإسلام يأمُر أتْباعَه المخْلِصين لتعاليمِه باستِخْدام القوَّة ضدَّ طائفةٍ من المؤمنين، إذا بغت واعتدتْ على طائفة أخرى منهم؛ لأنَّ البغيَ والظُّلْم والاعتِداء محظورات في شرْعة الإسلام، لا يتهاون أي قدر من التَّهاوُن مع مرتكبيها، ولا يتسامح أي نوْع من التَّسامُح مع المجترئين عليها، وتبلغ كراهية الإسلام للبغي حدًّا لا يَمنعه إيمان الطَّائفة الباغية من استِعْمال القوَّة الحاسمة ضدَّها، وتصِل مجافاته للاعتِداء مبلغًا لا يحول إسلام الطائفة المعتدية دون توجيه ضربةٍ موجعة لها، كلّ ذلك كي يرجع البغاة عن غيِّهم ويؤوب المعْتدون إلى رشدهم.

وهذا المعنى هو ما تجِدُه واضحًا صريحا في قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].

وهكذا يظهر موقِف الإسلام جليًّا من الأمر بالقوَّة، موقفًا يأمر فيه باستخدامِها ضدَّ بعْض أتباعه في حالة البغي يصدر عنهم، ويبيِّن تشريعه واضحًا لقمْع بعض المنتمين له في حالة الاعتِداء يقومون به، ومن ثمَّ لا يجب أن يُلام الإسلام قليلَ لوْمٍ ولا كثيرَه، إذا ارْتضى استِعْمال نفس القوَّة ضدَّ آخَرين من دون المسلمين سلكوا طريق البغي، وارتضَوا شرعة الظُّلم، وتسابقوا في مِضْمار الجَوْر، وهبُّوا مسرعين في ميادين الاعتِداء.

ولا شكَّ أنَّ السَّلام هو طبيعة الإسْلام الأصيلة، وجوْهر تعاليمِه النَّبيلة، ومدار رسالتِه السَّامية، إلاَّ أنَّ الإسلام في سِلْمِه وحرْبِه أشبهُ ما يكون بسفينةٍ تَمخر عباب البَحْر، وتشقُّ طريقَها عبر مياه المحيطات، فالنَّاظر لركَّاب السفينة، وهم يتمتَّعون بطمأنينة الجانب، وسلامة المقْصِد، وحسن النَّوايا، وجميل المعْشر، والتَّمسُّك بإقرار السَّلام، والحِرْص على إشاعة الأمن - يَحسَبُهم لا يعْرِفون طريقًا لارتِداء معاطف الحرب، ولا يهْتدون سبيلاً للبس أزْياء العراك، غير أنَّ ناظِرًا آخَر حين يراهم في ساحات الوغى رآبيل مقبلة، وفي ميادين القتال آسادًا مزَمْجِرة، وتبين له شدَّتُهم في منازلة المفسدين، وتتراءَى له صولتُهم في كسْر شوكة الظَّالمين - يَحسَبُهم رجالاً التصقتْ معاطف الحرْبِ بأجسادِهم، فأصبحوا لا يستطيعون خلعها، وصارت ملابس العراك كجُلُودهم، لا سبيل لسلخها والانفِصال عنها.

والحقُّ أنَّ الصَّواب قد فات كلا النَّاظرَيْن؛ لأنَّ الأوَّل ظنَّ السَّفينة ساكنةً مقصورةً على رجال بأيديهم ورودُ الجمال، والثاني حسبها تتحرك غازية معتدية لا تستقرُّ على جودي السَّلام.

والحقيقة وسط بين الأمرين، فسفينة الإسلام تتحرَّك لأنَّ السُّكون ممَّا يُخالف سنن الله في الكون، والركود الدَّائم لا يستقيم مع طبيعة الأشْياء، والوقوف المستمرُّ يتناقض وحقيقة هذه الحياة، إلاَّ أنَّ السَّفينة لما شرعت تتحرَّك وسط البحر تمخُر عبابه، أرادها من يكرهون السَّلام، ويعشقون الظلام - حطامًا وسط البحر تتلاعب به أمواجه، وابتغوا ركَّابها طعمة تلتهِمُها حيتانه، فدافع ركَّابُها المسلمون أشدَّ ما يكون الدفاع، وكان لا بدَّ أن يفعلوا، وهاجم ركَّابها المظلومون أقوى ما يكون الهجوم، وما كان لهم ممَّا فعلوا مهرب، أو ممَّا وقع فرار.

ولقد كان المسلِمون منصفِين أكمل ما يكون الإنْصاف حال دفاعهم، وعادلين أرْوع ما يكون العدْل في وضْع هجومهم، وكان شأنُهم عجيبًا في الحال الأوَّل، ومدهشًا في الوضْع الثاني، إلاَّ أن علامات العجب تبدأ في الزوال، وأمارات الدَّهشة تتحرَّك نحو الأفول، حينما نعلم أنَّ قائد السَّفينة هو خاتم الأنبِياء محمَّد - صلى الله عليه وسلَّم - لأنَّ النَّبيَّ - عليْه الصَّلاة والسَّلام - كان عجيبًا في جميع أحواله، ومدهشًا في كل أوضاعه.

وعلى الرَّغم من أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان بشرًا مثلَنا، إلاَّ أنَّه كان متميِّزًا في جميع ما يأتي، فريدًا في كل ما يدع، فكان نبي الرَّحمة الذي تحرَّك حاملاً راية الحبِّ والسَّلام، رافعًا لواءَ الخير والعدالة، كما كان هو نفسه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - نبيَّ الملحمة الذي قصم الله به ظهر الجبابرة، ووضَع به أقدار المتكبرين، وقضى به على طغْيان المتألِّهين، والله أعلم حيث يجعل رسالته، والحمد لله ربِّ العالمين.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015