إن أصول الفقه وعلم النحو يقفان على طريق واحدة ولكنهما ينظران باتجاهين متعاكسين، فالدلالة بالنسبة لعلم النحو تلاحظ أولاً وقبل الكلام (المبنى)، وهي بالنسبة للأصولي بعد الكلام، والمخاطب بعلم النحو هو «المتكلم» والمؤدِّي، أما المخاطب بأصول الفقه فهو «المتلقي»؛ ولأجل ذلك فإن النحو علمٌ معياري، «قائم على ما يجب أن يكون،» فهو معني بـ «التركيب» والتشكيل، فيما الأصول علم وصفي،

معنيٌّ «بالتحليل» والاستنباط:

المتكلم الكلام المتلقي

الدلالة النحوية الدلالة الأصولية:

على أن النحو لم يمضِ لإتمام وظيفته التي وجد لأجلها بشكل كامل بعد تأسيسه على يد سيبويه في «الكتاب»، فقد درس النحاة الجملةَ -كما يرى بعض الباحثين- «من النقطة الخطأ، من المبنى إلى المعنى، أي في اتجاه معاكسٍ لما تجري عليه عملية الاتصال اللغوي» عند الإرسال، مما أدى إلى جعل درسهم لبناء الجملة «تحليلاً لا تركيباً»، فأفضى ذلك إلى انكماش التنظير، وفقدان نظرية تركيبية شاملة للكلام العربي عموماً، ويتمثل هذا المنهج الذي اتبعه النحاة في استنباط أحكام النحو من استقراء كلام العرب، فقد عُرِّف النحو أيضاً بأنه «العلم بأحكام مستنبطة من استقراء كلام العرب ( ... ) أحكام الكَلِم في ذواتها، أو فيما يَعرضُ لها بالتركيب، لتأدية أصل المعاني ( ... ) ليحترز عن الخطأ في فهم معاني كلامهم، وفي الحذو عليه،» وفي هذا التعريف واضح أن النحو أصبح قلقلاً بين دور «فهم المعاني» و «أدائها.»

لقد كان لهذا القلق في الوظيفة النحوية أن يجر علم النحو للتأثُّر البالغ بعلم الأصول، خصوصاً في تشخيص الأدلة وأوجه دلالتها، وهو أخطر مباحث الأصول والنحو معاً، وقد علل ابن الأنباري ذلك بالقول: «النحو معقول منقول» كما أن الفقه «معقول من منقول»؛ ولذلك نشهد في تشخيصهم لأدلة النحو نفس ما وجدناه عند الأصوليين من النص (السماع) والقياس والإجماع والاستحسان والاستصحاب وغيرها، وقد كان لذلك التقليد والمحاكاة لأصول الفقه أن يولِّد علماً جديداً هو «أصول النحو»، و «يعنون بما يسمونه «أصول النحو» ما عناه الأصوليون من «أصول الفقه» بشقيه الأدلة والمصادر التي ينبني عليها النحو والقواعد الممهدة للاستنباط،» ثم كان أصوليو النحو حريصين كل الحرص على بيان اتِّباعهم لأصول الفقه من أمثال: ابن جني وابن الأنباري والسيوطي.

وفي السياق نفسه -أعني التقليد لأصول الفقه- ابتكر النحاة ما سمي بـ «التأويل النحوي» ليجبروا به كل صدعٍ في «بناء الجملة» إذا لم يكن متوافقاً مع البنية الأساسية، وذلك بأن يحمل الكلام على معناه لا على لفظه، وسموا هذه الوسيلة: «الحمل على المعنى»، وقالوا: «والحمل على المعنى كثير في كلامهم؛» ولهذا السبب تركَّز البحث النحوي حول «العلامة الإعرابية»، التي بقدر ما هي مهمة في «التركيب» هي مهمةٌ أيضاً في الاستقبال و «التلقي» للنص، والفهم له، وهي في الواقع جزء -وإن كان أساسياً- من موضوعات علم النحو، وليست كل موضوعاته، كما يحصل في الواقع في مؤلفات هذا العلم.

لقد جرت محاولات عديدة لإصلاح النحو، بدءاً من الجرجاني (ت471ه) في كتابه «دلائل الإعجاز» اعتماداً على مفهوم المعنى النحوي وصلته بالنظم «التركيب»، والذي قدم بحق أهم نقد للنحويين مبتكراً «نظرية النظم» أو «التعليق»، وهي نظرية النحو العربي المتعلقة بإنتاج الكلام وأداء المعنى، وثانيها محاولة ابن مضاء الأندلسي (513 - 592ه) في كتابه الشهير: «الرد على النحاة» الذين «التزموا [في النحو] ما لا يلزمهم، وتجاوزوا فيها [صناعة النحو] القدر الكافي فيما أرادوه منها»، وصولاً إلى العصر الحديث حيث قدم إبراهيم مصطفى في كتابه «إحياء النحو» نقداً للنحويين الذين حصروا غايته في بيان الإعراب وتفصيل أحكامه، في ذهلٍ عن الوظيفة الرئيسية للنحو «قوانين تأليف الكلام»، ومحاولة حميدة مصطفى في كتابه: «نظرية الربط والارتباط في اللغة العربية»؛ إذ قام بتطوير نظرية الجرجاني من خلال علم اللغة الحديث (اللسانيات)، والخروج بنظرية «الربط والارتباط»، وغيرهم.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015