اللاحقة.

إن الإطار الوظيفي لعلم أصول التفسير هو إذاً «استقبال» وتحليل الدلاّلة لنصٍّ ناجز، واستعارته من العلوم تبقى في حدود مهمته: «تحليل النّص» واستكشاف الدلالة واستنباطها، وبناء على ذلك نقول (مستعيرين تعبير الشاطبي في تحديد موضوعات أصول الفقه): كل مسألةٍ مرسومةٍ في أصول التفسير لا ينبني عليها تفسير أو تأويل، أو لا تكون عوناً مباشراً في ذلك، فوضعها في أصول التفسير عاريَّة .. فليس كل ما يفتقر إليه التفسير من العلوم يعدُّ من أصوله.

وإنه لمن بدهيات البحث التفسيري أن الثقل الرئيسي للدلالة يتركَّز على الدرس اللغوي؛ ذلك أن القرآن ينتمي في لفظه المادي إلى نسق اللغة العربية، ولا سبيل إلى دلالته خارج إطار الوسيط اللغوي، فما ورد من الوحي على لسان الرسول ? تفسيراً للقرآن الكريم يعتبر نادراً؛ ولذلك كان الشرط الرئيس للتفسير هو العلم باللغة العربية وقواعدها بوصفه شرطاً دائماً أمراً لا مفر منه في كل الأحوال.

إنه لمن المحزن حقاً أن الخطوات التأسيسية هذه لم تستكمل أو تستثمر بشكل جيد فيما بعد، فوجدنا أنفسنا لا محالة أمام فراغ كبير ما يزال ينتظر الكثير من الجهد.

ثالثاً: المنظور الأصولي أساساً لأصول التفسير:

وما دام التفسير متعلقاً أولاًَ وقبل كل شيء بالدلالة اللغوية، فإن ملاحظة علاقة العلوم اللغوية ووظيفتها بالنسبة للدلالة أمر قد يساعدنا على كشف المصادر التي بإمكانها مدّ أصول التفسير بالمادة الأساسية للتقعيد؛ وذلك أن أي علم من العلوم يقف دوماً على تقاطعات العلوم، ويؤسس قواعده وأدواته عبر تداخلها والاستعارة من أدواتها ومناهجها، إذ ليس هناك علم خالص من أي نوع من أنواع العلاقات المذكورة، وهو أمر شديد الوضوح فيما يخص البحث اللغوي العربي.

لقد قامت أهم علوم العربية (النحو والبلاغة) على وظيفة تحديد قواعد الأداء والتركيب فيما قام أصول الفقه على وظيفة تحليل النص وتلقِّيه، ومن هنا فإنه يمكن ملاحظة الصلة بين المنظور الأصولي (أصول الفقه) والوظيفة الاستقبالية لعلم التفسير، فإذا كنا نميّز بين الوحدات اللغوية (الكلمات)، والأنظمة اللغوية -على النحو الذي ميّز فيه العلماء الأقدمون بين «علم اللغة» بمفهومه العام الذي يشمل كل الدرس اللغوي ومباحثه، وبين علم اللغة بمفهومه الخاص الذي يبحث في (الكلمات) فيما يسمى الآن بـ «المعجمية» - إذا كنا نميّز موضوعات اللغة على هذا النحو، فإن كلاً منهما يسهم في صياغة علم التفسير، والواقع أن «المعجم» العربي يعتمد على النقل أساساً وأحياناً على القياس، فهو في المحصلة علمٌ نقلي «وصفي» الطابع إجمالاً، فيما العلوم التي تدرس أنظمة اللغة هي علوم تسعى نحو التوصل إلى «معيارية»؛ بمعنى أنها تسعى لإقامة قواعد تحكم الأداء والتلقي للكلام، ولكنها قواعد تقوم على الاستقراء والتحليل للنصوص المنجزة في اللغة، وبهذا المعنى فإن «المعيارية» ليست إلاّ حصيلة الوصف والتحليل.

ولأن علم التفسير هو علمٌ لتلقِّي النص القرآني فإن ما يعني علم أصول التفسير من اللغة والعلوم هي تلك المتعلقة بـ «استنباط الدلالة» من الكلام الناجز، ولا نتكلف عناء لنلاحظ أن أهم العلوم التي قامت على أساس الدلالة اللغوية هي: «أصول الفقه» و «النحو»، ولكن بينما يشتغل أصول الفقه في الكلام بعد إنتاجه، فإنه في النحو يكون الاشتغال في الدلالة قبل إنتاج الكلام، فقد عُرِّف الأصول على أنه «العلم بالقواعد الكلية لاستنباط الأحكام [الدلالة] الشرعية من أدلتها التفصيلية،» وهذا يعني أن «نظر الأصولي [كائن] في وجوه دلالة الأدلة السمعية» على حد تعبير الإمام الغزالي، مما يقودنا للقول بأن وظيفة علم الأصول هي الوظيفة المقابلة تماماً لوظيفة علم النحو؛ فقد عرّف النحو بأنه «معرفة كيفية التركيب فيما بين الكلم لتأدية أصل المعنى مطلقاً»،والمقصود بالمعنى: المعنى الذي يريده المتكلم، وهو ما يُطلق عليه البعض «المعنى النحوي»، فالنحو أساساً متعلق بالمتكلم ومنشئ النص، فهو معنيٌ بالدلالة قبل أن تضمّن تركيباً، أي قبل لحظة الأداء، أداء المعنى بالتركيب.

1. العلوم اللغوية ووظيفة التلقي أو الاستقبال

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015