فللآية معنيان: إما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة توقّع نزول العذاب بأن يريهم مقدماته مثل الرعد قبل الصّواعق، وإما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة تنقّص من قبل أن يتنقّصهم قبل الأخذ بأن يكثر فيهم الموتان والفقر والقحط.

ما وجه العبرة في قوله تعالى: (أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون) [النحل: 48]؟

في هذه الآية انتقال إلى دلالةٍ من حال الأجسام التي على الأرض كلِّها مشعرةٍ بخضوعها لله تعالى خضوعاً مقارناً لوجودها وتقلّبها آناً فَآناً علم بذلك من علمه وجهله من جهله. وأنبأ عنه لسان الحال بالنسبة لِما لا علم له، وهو ما خلق الله عليه النظام الأرضي خلقاً ينطق لسان حاله بالعبودية لله تعالى، وذلك في أشدّ الأعراض مُلازمةً للذوات، ومطابَقَةً لأشكالها وهو الظلّ.

ومعنى سجود الظلال أن الله خلقها من أعراض الأجسام الأرضية، فهي مرتبطة بنظام انعكاس أشعة الشمس عليها وانتهاء الأشعة إلى صلابة وجه الأرض حتى تكون الظلال واقعة على الأرض وُقوعَ الساجد، فإذا كان من الناس من يأبى السجود لله أو يتركه اشتغالاً عنه بالسجود للأصنام فقد جعل الله مثاله شاهداً على استحقاق الله السجود إليه شهادة رمزية. ولو جعل الله الشمس شمسين متقابلتين على السواء لانعدمت الظلال، ولو جعل وجه الأرض شفافاً أو لامعاً كالماء لم يظهر الظل عليه بيّنا. فهذا من رموز الصنعة التي أوجدها الله وأدقّها دقة بديعة. وجعل نظام الموجودات الأرضية مهيئة لها في الخلقة لحكم مجتمعة، منها: أن تكون رموزاً دالّة على انفراده تعالى بالإلهية، وعلى حاجة المخلوقات إليه، وجعل أكثرها في نوع الإنسان لأن نوعه مختص بالكفران دون الحيوان.

والغرض من هذا الاستدلال الرمزي التنبيه لدقائق الصنع الإلهي كيف جاء على نظام مطّرد دال بعضه على بعض، كما قيل:

وفي كل شيء له آية تدلّ على أنه الواحد

والاستدلال مع ذلك على أن الأشياء تسجد لله لأن ظلالها واقعة على الأرض في كل مكان.

قال تعالى: (وإن لكم في الأنعام لغبرة نسقيكم مما في بطونه) [النحل: 66] ما وجه تذكير (بطونه)؟

وإفراد ضمير الأنعام هنا مراعاة لكون اللفظ مفرداً لأن اسم الجمع لفظ مفرد، إذ ليس من صيغ الجموع، فقد يراعى اللفظ فيأتي ضميره مفرداً، وقد يراعى معناه فيعامل معاملة الجموع، كما في آية سورة المؤمنين (نسقيكم مما في بطونها).

قال تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أ‘لم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر) [النحل: 101] ما المراد بالتبديل هنا؟

روي عن ابن عباس أنه قال: «كان إذا نزلت آية فيها شدّة ثم نزلت آية ألين منها يقول كفار قريش: والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه، اليوم يأمر بأمرٍ وغداً ينهى عنه، وأنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه» اهـ.

وهذه الكلمة أحسن ما قالهُ المفسّرون في حاصل معنى هذه الآية. فالمراد من التبديل في قوله تعالى؛ (بدلنا) مطلقُ التغاير بين الأغراض والمقامات، أو التغاير في المعاني واختلافها باختلاف المقاصد والمقامات مع وضوح الجمع بين محاملها.

فيشمل التبديلُ نسخ الأحكام، وهذا قليل في القرآن الذي يقرأ على المشركين لأن نسخ الأحكام إنما كثر بعد الهجرة حين تكوّنت الجامعة الإسلامية، وأما نسخُ التلاوة فلم يرد من الآثار ما يقتضي وقوعه في مكّة فمن فسّر به الآية كما نقل عن مجاهد فهو مشكل.

ويشمل التعارض بالعموم والخصوص ونحو ذلك من التعارض الذي يحمل بعضه على بعض، فيفسّر بعضه بعضاً ويؤوّل بعضه بعضاً.

ـ[محمد العبادي]ــــــــ[06 Sep 2009, 01:17 ص]ـ

الجزء الخامس عشر

ما رأي ابن عاشور في الإفسادين الذين قال الله عنهما: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين) [الإسراء: 4]؟

هذه الآية تشير إلى حوادث عظيمة بين بني إسرائيل وأعدائهم من أمتين عظيمتين: حوادث بينهم وبين البابليين، وحوادث بينهم وبين الرومانيين. فانقسمت بهذا الاعتبار إلى نوعين: نوع منهما تنْدَرج فيه حوادثهم مع البابليين، والنوع الآخر حوادثهم مع الرومانيين، فعبر عن النوعين بمرتين لأن كل مرة منهما تحتوي على عدة ملاحم

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015