إِنَّ العَلاقَةَ بَيْنَ التَّفْسِيْرِ وتَوْجِيْهِ آياتِ القُرآنِ تَوْجِيْهًا نَحْوِيًا لا يُمْكِنُ فَصْلُها، فتَوْجِيْهُ هذه الآيَاتِ يُعَدُّ جُزْءًا مِن تَفْسِيْرِها، وكَانَ لا بُدَّ للمُعْرِبِ أَنْ يَسْتَعِيْنَ بِالمُفَسِّرِ للوُصُولِ إِلى إِعْرَابٍ صَحِيْحٍ، كَما أَنّهُ لا بُدَّ للمُفَسِّرِ أَنْ يَسْتَعِيْنَ بِإِعْرَابِ النَّحْوِيِّ لِيَصِلَ إِلى مَعْنىً صَحِيْحٍ، فالعَلاقَةُ بَيْنَهُما تَبَادُلِيّةٌ.

وكَانَ التَّفْسِيْرُ في الفَتْرَةِ الّتي نَشَأتْ فيهِ هذه العُلُومُ قَد اسْتَقَرَّ عَلَى تَفْسِيْرِ القُرآنِ بِأَقْوَالِ الرّسُولِ الكَرِيْمِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّمَ، ثُمُّ أَقُوالِ الصَّحَابَةِ والتّابِعِيْنَ، وهذا هو مَا يُعْرَفُ بِالتَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ، ولَمْ يَكُنْ غَيْرُ ذلِكَ مِن أنواع التَّفْسِيْرِ الأخرى قد اسْتَقَرّ، فَأَخَذَ النُّحَاةُ بِهذا النَّوْعِ مِن التَّفْسِيْرِ، ومُلِئت كُتُبُ مَعَانِي القُرآنِ بِالأحَادِيْثِ وأَقْوالِ الصّحابَةِ والتّابِعِيْنَ.

وكَانَ كِتَابُ مَعَانِي القُرآنِ للفَرّاءِ مِن أوّلِ الكُتُبِ الّتي دُوّنت في بَيانِ معاني آيات القرآن الكريمِ، وتوجِيهها توجيْهًا نَحْوِيًّا، واعْتَمَدَ في تَرْتِيْبِ كِتَابِهِ عَلى تَرْتِيْبِ المُصْحَفِ، قَالَ ابنُ النَّدِيْمِ: "قَالَ أَبُو العَبّاسِ ثَعْلَبُ: كَانَ السَّبَبُ في إِمْلاءِ كِتَابِ الفَرّاءِ في المَعَانِي أَنَّ عُمَرَ بنَ بَكِيْرٍ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وكَانَ مُنْقَطِعًا إِلى الحَسَنِ بنِ سَهْلٍ، فَكَتَبَ إِلى الفَرَّاءِ أَنّ الأَمِيْرَ الحَسَنَ بنَ سَهْلٍ رُبّما سَأَلَني عَن الشَّيءِ بَعْدَ الشَّيْءِ مِن القُرْآنِ، فلا يَحْضُرُنِي فِيْه جَوَابٌ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْمَعَ لي أُصُولاً، أَوْ تَجْعَلَ في ذلكَ كِتَابًا أَرْجِعُ إِلَيْهِ فَعَلْتُ، فَقَالَ الفَرّاءُ لأصْحَابِهِ: اجْتَمِعُوا حَتّى أُمْلِيَ عَلَيْكُم كِتَابًا في القُرْآنِ، وجَعَلَ لَهُم يَوْمًا فَلَمّا حَضَرُوا خَرَجَ إِلَيْهِم، وكَانَ في المَسْجِدِ رَجُلٌ يُؤَذّنُ، ويَقْرَأُ بالنّاسِ في الصَّلاةِ، فالْتَفَتَ إِلَيْه الفَرّاءُ، فَقَالَ لَهُ: اقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ نُفَسِّرُها، ثُمّ نُوفِي الكتَابَ كُلَّه، فقَرَأ الرَّجُلُ، ويُفَسِّرُ الفَرّاءُ، فَقَالَ أَبُو العَبّاسِ: لَمْ يَعْمَلْ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِثْلَه، ولا أَحْسَبُ أَنَّ أَحَدًا يَزِيْدُ عَلَيْهِ."

والظّاهِرُ أَنَّ ثَعْلَبًا قَدْ أَخْطَأ في عَدِّهِ كَتَابَ الفَرّاء أَوّلَ هذه الكُتُبِ، فَقَدْ سَبَقَهُ أُسْتَاذُه الكِسَائِي، ونُسِبَ للرّؤَاسِيّ (ت170ه) كِتابٌ في مَعانِي القُرآنِ، وِنُسِبَ ذلِكَ أَيْضًا إِلى يُونُسَ بِنِ حَبِيْبٍ (ت183ه)، وقَد عَدَّ ابْنُ النَّدِيْمِ خَمْسَةً وعِشْرِيْنَ مُؤلّفًا في مَعَاني القُرْآنِ.

وأَهْلُ التَّفْسِيْرِ يَرَوْنَ أَنّ هذه الكُتُبَ مِنْ كتُبِ التّفْسِيْر، ولا شَكَّ في أَنَّها كَذلِك، ولكِنَّها تَمَيّزَت عَنْ غَيْرِها في أَنّها دَرَسَتْ الآيَاتِ القُرْآنِيَّة مِنْ جَانَبٍ وَاحِدٍ، وهو الجَانِبُ اللّغَوِيُّ والنَّحْوِيُّ، فَتَوْجِيْهُ هذه الكُتُبِ للآيَاتِ القُرآنِيَّةِ تَوْجِيْهٌ نَحْوِيٌّ، ويَنْتَمِي هذا التَّوْجِيْهُ إِلى عِلْمِ النَّحْو؛ ولِذلِكَ أَرَى أَنَّهُ مِن الصَّعْبِ فَصْلُ عِلْمِ النَّحْوِ عَنْ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ في الكُتُبِ الّتي تَنَاوَلَت تَوْجِيْهَ آيَاتِ القُرآنِ الكَرِيْمِ تَوْجِيْهًا نَحْوِيًّا.

وأَرَى أَنَّه لا يُمْكِنُ قَصْرُ عِلْمِ النَّحْوِ عَلَى تَوْجِيْهِ الآيَاتِ القُرآنِيَّةِ، والكَشْفِ عَنْ مَعَانِيْها، فالنَّحْوُ عِلْمٌ وَاسِعٌ تَنَاوَلَ اللّسَانَ العَرِبِيَّ ودَرَسَهُ في شَتّى أَشْكَالِهِ، ولَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الآيَاتِ القُرْآنِيَّةِ، وكَانَ لِعُلَمَاءِ النَّحْوِ جُهُودٌ كَثِيْرَةٌ تَنَاوَلت القَوْاعِدَ النّحْوِيَّةَ لهذا اللّسَانِ، وكَانَتْ لَهُم أَيْضًا جُهُودٌ تَنَاوَلَت تَوْجِيْهَ أَشْعَارِ العَرَبِ، وأخْرَى تَنَاوَلَت الأحَادِيْثَ النَّبْوِيَّةَ، وكذلِكَ كَلامُ النَّاسِ، وغَيْرُهُ مِن أَشْكَالِ الكَلامِ، ولا شَكَّ أَنَّ هذا كُلَّهُ يَصُبُّ في خِدْمَةِ

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015