وكَانَ ابنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيّ مِن أَوّلِ مَنْ وَضَعَ تَفْسِيْرًا عَلَى هذا النَّحْوِ، والطَّبَرِيُّ هو أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وعِشْرِيْنَ ومائتين، تَنَقّلَ في البِلادِ طَلَبًا للعِلْمِ، وكَانَ مِنْ أَئِمّةِ الحَدِيْثِ، ومِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ القِرَاءاتِ، ومِنْ عُلَمَاءِ العَرَبِيَّةِ، وإِمَامٌ عَالِمٌ بِالفِقْهِ، وقد تُوفّيَ سَنَةَ ثَلاثِمَائةٍ وعَشْرٍ من الهِجْرَةِ.

ويُعَدُّ تَفْسِيْرُ ابْنِ جَرِيْرٍ مِنْ أَقْوَمِ التَّفَاسِيْرِ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: "وهو مِنْ أَجَلِّ التَّفَاسِيْرِ وأَعْظَمِها قَدْرًا،" ويُعَدُّ أَيْضًا المَرْجِعَ الأَوّلَ عنْد المُفَسِّرِيْنَ الّذينَ عُنُوا بالتَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِِ، وذلِكَ لِمَا تَمَيَّزَ بِهِ مِن الْتِزَامِهِ بالسَّنَدِ، واهْتِمَامِهِ بِتَوْجِيْهِ الأَقْوَالِ، وغَيْرِها.

وأَمّا طَرِيْقَتُهُ في التَّفْسِيْرِ فَكَانَ إِذا أَرَادَ أَنْ يُفَسِّرَ آيَةً يَقُولُ: (القَوْلُ في تَأويلِ قَوْلِهِ تَعَالَى كَذا وكَذا)، ثُمَّ يُفَسِّرُ الآيَةَ، ويَسْتَشْهِدُ عَلَى تَفْسِيْرِهِ بِمَا يَرْوِيْهِ مُلْتَزِمًا بِالسَّنَدِ عَن الصَّحَابَةِ أَو التّابِعِيْنَ، ولا يَقْتَصِرُ ابنُ جَرِيْرٍ عَلَى عَرْضِ الرِّوَايَاتِ، فَنَجِدُه يُرَجِّحُ قَوْلاً عَلى قَوْلٍ بَعْدَ تَوْجِيْهِ الأَقْوَالِ جَمِيْعِها، ويَتَعَرَّضُ إلى مَا يَتَعَلّق بِالآيَةِ مِنْ أَحْكَامٍ فِقْهِيَّةٍ أَوْ نَحْوِيَّةٍ.

ثانياً: التَّفْسِيْرُ والنَّحْوُ

عَرَّفَ الزَّرْكَشِيُّ عِلْمَ التَّفْسِيْرِ بِقَوْلِهِ: "التّفْسِيْرُ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ فَهْمُ كِتَابِ اللهِ المُنَزّلِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبَيَانُ مَعَانِيْهِ، واسْتِخْرَاجُ أَحْكَامِهِ وحِكَمِهِ،" ويَسْتَمِدُّ المُفَسِّرُ ذلِكَ مِن عُلُومٍ مخْتَلِفَةٍ كعِلْمِ القِرَاءَاتِ، وعِلْمِ اللّغةِ، والنَّحْوِ والتَّصْرِيْفِ، وأُصُولِ الفِقْهِ.

وقَدْ جَعَلَ أَبُو حَيّانَ الأَنْدَلُسِيُّ عِلْمَ النَّحْوِ وغَيْرَهُ مِنْ عُلُومِ اللُّغَةِ جُزْءًا مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ، فالتَّفْسِيْرُ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، قَالَ: "التَّفْسِيْرُ عِلْمٌ يُبْحَثُ فِيْه عَنْ كَيْفِيّةِ النُّطْقِ بِأَلْفَاظِ القُرْآنِ، ومَدْلُولاتِها، وأَحْكَامِها الإفْرَادِيَّةِ والتَّرْكِيْبِيَّةِ، ومَعَانِيْها الّتِي تُحْمَلُ عَلَيْها حَالَة التَّرْكِيْبِ، وتَتِمّاتٍ لِذلِكَ." ثُمَّ قَالَ: "وقَوْلُنا: (وأَحْكَامِهَا الإفْرَادِيَّةِ والتَّرْكِيْبِيَّةِ) هذا يَشْمَلُ عِلْمَ التَّصْرِيْفِ، وعِلْمَ الإعْرَابِ، وعِلْمَ البَيَانِ وعِلْمَ البَدِيْعِ."

ولا غَرَابَةَ في أَنْ يَكُونَ عِلْمُ الإِعْرَابِ ضِمْنَ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ؛ وذلِكَ لأَنَّ كِلَيْهِما يَبْحَثَان عَن المَعْنى، ويَهْدِفَانِ إِلى الكَشْفِ عَنْ مَعْنىً تَتَبَيَّنُ مِنْ خِلالِهِ أَسْرَارُ الكِتَابِ العَزِيْزِ؛ ولأَنَّ هذين العِلْمَيْنِ وغَيْرَهُما مِن العُلُومِ كُلِّها نَشَأَتْ في فَتْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وهَدَفَت إِلى تَعْرِيْفِ النّاسِ بِأُمُورِ دِيْنِهِم، والحِفَاظِ عَلَى كِتَابِ اللهِ ولُغَتِهِ مِن اللّحْنِ الّذي أَصَابَ الأُمَّةَ في تِلْكَ الفَتْرَةِ، وكَانَ أَوْلُ هذه العُلُومِ وأَعْلاها عِلْمَ التَّفْسِيْرِ.

ويُشِيْرُ حَدُّ أَبِي حَيَّان إِلى العَلاقَةِ المَتِيْنَةِ بَيْنَ العِلْمَيْنِ؛ ولِذلِكَ كَانَ يَذْهَبُ كَثِيْرٌ مِن النُّحَاةِ في المَرحَلَةِ الأولى للنَّحْو إِلى التَّفْسِيْرِ، وأَرى أَنَّ كُتُبَ مَعَانِي القُرْآنِ الّتي اشْتَهَرَت في بِدَايَةِ نَشْأَةِ هذا العِلْمِ خَيْرُ دَلِيْلٍ عَلَى أَنَّهُم كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ مَا يَقُومُونَ بِهِ هو مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيْرِ، وكَأَنَّ النَّحْوَ قَدْ وُجِدَ لِدِرَاسَةِ آيَاتِ القُرآنِ المَجِيْدِ.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015