وما دمنا نتحدث عن التكرار في القرآن العظيم -بوصفه آية من آيات إعجازه الكبرى، فإننا لا نستطيع أن نغفل عنصرا هاما من عناصر هذا التكرار- ألا وهو تكرار القصص القرآني، وإن كنا نعتقد أنه موضوع كامل متكامل، يحتاج إلى بحث مستقل -وسنتناوله إن شاء الله- إلا أننا نشير الآن إلى بعض ما يتصل به استيفاء لهذا البحث.

أقول .. إن من أنواع التكرار -تكرار القصص، كقصة إبليس في السجود لآدم، وقصة موسى وغيره من الأنبياء. فقد ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعا من القرآن العظيم، وذكر قصة نوح في خمس وعشرون آية، وقصة موسى في سبعين آية، وإنما كررها- كما يقول صاحب كتاب ((العواصم من القواصم)) لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر. وسبب ذلك أمور:

إحداها: أنه إذا كرر القصة زاد فيها شيئا، ألا ترى أنه ذكر الحية في عصا موسى عليه السلام، وذكرها في موضع آخر ثعبانا، فقال تعالى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} وقال سبحانه: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}.

وهذه سمة من سمات البلغاء .. أن يكرر أحدهم في خطبته أو قصيدته كلمة لصفة زائدة.

الثانية: أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن، ثم يعود إلى أهله، ثم يهاجر بعده آخرون يحكون عنه ما نزل بعد صدور الأولين، وكان أكثر من آمن به مهاجريا، فلولا تكرر القصة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى آخرين، وكذلك سائر القصص .. فأراد الحق سبحانه وتعالى اشتراك الجميع فيها، فيكون فيه إفادة القوم، وزيادة تأكيد وتبصرة لآخرين وهم الحاضرون .. هكذا قال ابن الجوزي.

الثالثة: تسليته لقلب النبي -صلى الله عليه وسلم- مما اتفق للأنبياء مثله مع أممهم- قال تعالى: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}.

الرابعة: إن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة، وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة.

الخامسة: قالها ابن فارس:- وهي أن الله تعالى أنزل هذا القرآن، وعجز القوم عن الإتيان بمثل آية لصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بين وأوضح الأمر في عجزهم، بأن كرر ذكر القصة في مواضع، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله، بأي نظم جاءوا بأي عبارة عبروا.

السادسة: أنه لما سخر العرب بالقرآن قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}، وقال في موضع آخر: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} فلو ذكر قصة آدم مثلا في موضع واحد، واكتفى بها، لقال العربي بما قال الله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}: (إيتونا أنتم بسورة من مثله) فأنزلها الله تعالى في تعداد السور، دفعا لحجتهم في كل وجه.

السابعة: أن القصة الواحدة من هذه القصص، كقصة موسى مع فرعون -وإن ظن أنها لا تغاير الأخرى، فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان، وتقديم وتأخير، وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ، فإن كل واحدة لابد وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد فيه، لا يوقف عليه إلا منها دون غيرها. فكأن الله تعالى فرق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاء، ثم قسم تلك الأجزاء على تارات التكرار لتوجد متفرقة فيها، ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة، من انفراد كل قصة منها بموضع، كما وقع في القرآن بالنسبة ليوسف عليه السلام خاصة.

ويأتي التكرار لـ:

* (للتأكيد): كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} نقول: إنما كررت لغرض عظيم هو التأكيد.

* (للتنويه): كقول أبي الأسد:

ولائمة لامتك يا فيض في الندى *-*-* فقلت لها: هل يقدح اللوم في البحر؟

أرادت لتثني الفيض عن عادة الندى *-*-* ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر؟!

كأن وفود الفيض يوم تحملوا *-*-* إلى الفيض لاقوا عنده ليلة القدر

مواقع جود الفيض في كل بلدة *-*-* مواقع ماء المزن في البلد القفر

* (التفخيم):كقول الحسن بن سهل:

إلى الأمير الحسن استجدتها *-*-* أي مزار ومناخ ومحل

أي مزار ومناخ ومحل *-*-* لخائف ومستريش ذي أمل

* (التقرير و التوبيخ والإنكار): كقول بعضهم:

إلى كم وكم أشياء منكم تريبني *-*-* أغمض عنها لست عنها بذي عمي

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015