والسياق في الواقع نوعان، سياق لورود الخطاب، وسياق لتلقيه، ولكل منهما دوره في التأثير على فهم الخطاب، وإن كلا من طرفي الخطاب (المخاطِب والمخاطَب) وسياقي الخطاب (الورود والتلقي) ووسيلة الخطاب (النص) تؤلف ما يسمى "عناصر الخطاب" الستة، وهي مجموعة العناصر التي تعتبر من لوازم مفهوم الخطاب، وهي بالنسبة للقرآن الكريم: المخاطِب (الله U)، والمخاطَب (المخلوقات العاقلة ذات الإرادة المستقلة)، والخطاب (موضوع الخطاب ومحتوى الخطاب)، ووسيلة الخطاب (القرآن)، وسياق نزول الخطاب (عصر الرسول r)، وسياق تلقي الخطاب (عصر متلقي الخطاب).
وإذا كانت مقاربات المقارنة النصية لنصوص القرآن في المنهج الفيلولوجي الاستشراقي قد أثمرت في خمسينيات القرن المنصرم منهج التفسير الموضوعي، فإن دراسات المنهج البياني لمدرسة الأمناء في أربعينيات القرن المنصرم المتأثرة بالتأوُّليَّة الألمانية ( Hermeneutics) بجوار دراسات توشيهيكو إيزوتسو ( Toshihiko Izutsu) المعتمدة على مزيج من البحث اللساني ( Linguistic) والأناسي (الأنثربولوجي صلى الله عليه وسلمnthropological) قد فتح أفقا جديدا لدراسات القرآن، وقد عكست تلك الدراسات خطورة وأهمية المناهج الحديثة في تطوير الدراسات القرآنية.
من التفسير إلى التحليل
يمكن القول إن القرن العشرين شهد انتقالا في دراسة القرآن من مستوى التفسير النصي إلى مستوى تحليل الخطاب، (وفي مقدمة مؤشرات هذا الانتقال في عالمنا الإسلامي انتشار ما يُعرف بالتفسير الموضوعي)، وعلى الرغم من هذا الانتقال سهل لنا تقديم الخطاب القرآني في مواجهة قضايا العصر وتحدياته، وفتح أفقا جديدا للقرآن، إلا أن إهمال تطوير البحث المنهجي في الدراسات القرآنية وإغراء المعارك الأيديولوجية فسح الفرصة أمام من يريد تغيير عقائد المؤمنين بالتقدم نحو القرآن ومحاولة زعزعة إيمانهم من خلال زعم "فهم" جديد للقرآن اعتمادا على المناهج الحديثة.
غير أن الدراسات القرآنية الحديثة في تحليل الخطاب تتجه في الغرب نحو الدراسات الأنثروبولوجية أكثر من الدراسات اللسانية، بل تكاد لا تحظى الدراسات اللسانية للقرآن باهتمام يذكر، والمقلق في الأمر أن هذه الدراسات الأنثربولوجية للخطاب القرآني تزايدت بدواعي الظروف السياسية العالمية، وأعني تحديدا مناخ ما سمي بـ"الإرهاب" و"الأصولية الإسلامية"، واتجهت في العموم لإثبات أن العنف ظاهرة أصيلة في بنية الخطاب القرآني، ومهما تدثرت بأوشحة العلم تبقى الدوافع السياسية الأيديولوجية ظاهرة للعيان دون كثير جهد، ولا نذهب بعيدا عندما نقول إن كثيرا من هذه الدراسات لا تختلف عن رؤية البرلماني الهولندي في فيلمه الوثائقي البائس "الفتنة" إلا بمزاعم الآلة العلمية وألبسة المعرفة الحيادية.
لا بد أن نشعر بالقلق ونحن نرى محاولات موازية تصدر بنفس الدوافع ومن جهات مشابهة للغاية التي تنفي عن القرآن كل ما يتعلق بالعنف والجهاد، وحقيقة الأمر أن هذا العمل متلبس بالعلم ليس إلا محاولة لمحاربة ما يوصف بأنه "العنف الإسلامي" وأفكار "الجهاد"، الأمر - كما أشرت من قبل - هو الجمع بين الشيء ونقيضه باسم المعرفة، والمعرفة والعلم في كلا الحالتين مظلومان.
ثمة محاولات قديمة تجمع البحث الأنثروبولوجي بالبحث اللساني، هذا أكيد، وهذه المحاولات تتسم عموما بالعلمية إلى حد كبير، غير أن هذه المحاولات العلمية ذاتها كان لها "الفضل" في إضفاء مسحة العلمية على البحوث الأنثربولوجية من حيث لم تقصد.
وفي مقدمة هذه البحوث دراسة توشيهيكو إيزوتسو "المفاهيم الدينية الأخلاقية في القرآن" (1958) و"الله والإنسان في القرآن: دراسة في دلاليات التصور القرآني للعالم" (1963)، وتعتبر دراسة دانيال ماديغان "صورة القرآن عن نفسه" (2000) شكلا من أشكال دمج المعرفة اللسانية بالأنثروبولوجيا، لكن دراسة ماديغان تبدو كما لو أنها تحايل على البحث اللساني من أجل الوصول إلى تصورات أيديولوجية مدعومة بالأنثربولوجيا التي تتضخم فيها المركزية الغربية على نحو بارز، بالإضافة إلى المقولات الاستشراقية الكلاسيكية.
¥