معلوم أن القرآن قد جاء ميسراً لكل الناس، فهو سهل التناول من جهة وبعيد الغور من جهة أخرى؛ فهو لذلك يخاطب كل الناس على اختلاف مستوياتهم، ولهذا يفهمه العامي كما يفهمه العالم؛ إلا أن فهم العالم _ بطبيعة الحال _ أعمق بكثير من فهم العامي كما هو معروف؛ وما ذاك إلا لأن المعاني القرآنية في نفسها سهلة عميقة جداً؛ وهذا سر من أسرار القرآن.

والحق أن اختلاف العصر وتنوع الأدوات التفسيرية ذات أثر بيّن في فهم معاني القرآن؛ ولهذا يقول الزركشي: (من كان حظه في العلوم أوفر كان نصيبه من علم القرآن أكثر)، ويقول ابن حزم: (على من قصد التفقه في الدين أن يستعين على ذلك من سائر العلوم، وحاجته إليها في فهم كلام ربه تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم) وما ذاك إلا لأن القرآن شديد العمق ويتعلق بكافة العلوم، والقرآن كما ذكرنا سابقاً يتعلق فهمه بكل الناس؛ وإن كان فهم العلماء أكثر عمقاً، ولهذا ذهب ابن عباس إلى تقسيم هذا الفهم على أربعة أنواع:

ـ وجه لا يعذر أحد فيه بجهالته

ـ وجه تعرفه العرب من كلامها

ـ وجه يعلمه العلماء

ـ وجه لا يعلمه إلا الله

ففهم العلماء _ بناء على هذا التصنيف _ يشتمل على فهم العرب المبني على قانون كلامهم وأساليبهم كما يشتمل على فهم الكافة البسيط؛ ثم أن فهم العلماء هذا يتجاوز فهم هذين النوعين بإضافة عمق آخر، ومن الملاحظ أن كل فهم من هذه الفهوم يشتمل على الفهوم السابقة ويتجاوزها، وسوف نركز في هذا المضمار على فهم العلماء.

ومعلوم أن فهم العلماء مقيد بقانون اللغة وقواعد العرب، ولهذا فإن من شروط هذا الفهم أنه يجري على قانون اللغة ويحتمله النظم والسياق، وفهم العلماء نفسه يتطور بتطور العلوم ويزداد المعنى القرآني وضوحاً بقدر زيادة العلوم والأدوات التفسيرية؛ ولهذا كان فهم العلماء نفسه على درجات، وتنقسم هذه الدرجات بحسب اختلاف السقوف المعرفية لدي العلماء، ومعلوم أن المتخصص في علم من العلوم يتنبه إلى ما لا يتنبه إليه غير المتخصص من الحقائق القرآنية التي تدخل في إطار ذلك التخصص، وبذلك يزداد المعنى القرآني وضوحاً ويزداد الفهم عمقاً ويزداد ذلك العمق كلما تطور العلم، فليس الفهم متوقفاً على القدماء أو المعاصرين؛ بل سوف يأتي بلا شك من هو أبعد سقفاً من المعاصرين في المستقبل؛ ولهذا لا يجوز لمن علم وجهاً من وجوه التفسير أن يزدري الفهوم السابقة، وليعلم أن اكتشافه هذا ما هو إلا درجة من درجات الفهم،

ومعلوم أن وجوه التفسير _ عند العلماء الأقدمين _ مختلفة متباينة، ويجوز للمعاصر أن يأخذ منها ما يرجحه، ويجوز له أيضا أن يخالفها جميعاً إن التزم بالضوابط والمعايير. أما ما أجمع عليه المفسرون فيجب أن لا يُسارَع في نقضه وبيان بطلانه، والحق أن إجماع العلماء والمفسرين غالباً ما يكون هو دلالة القرآن الواضحة، وما دل عليه القرآن بصورة قاطعة لا تقبل التأويل لا يمكن تكذيبه بمعطيات العلوم الطبيعية ولا بغيرها، ومن المعلوم أن هنالك حقائق قرآنية لم يصل إليها العلم؛ وذلك نحو السموات السبع والأرضيين السبع التي قال تعالى فيها: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) فلا يمكن قبول رأي العلم في هذه السماوات التي يتعسر عليه إدراكها، حيث يذهب العلم الحديث إلى أن هنالك فضاء لا نهائي وليس وراءه إلا الفضاء أيضاً؛ ولهذا ذهب بعض من نظر في الإعجاز العلمي إلى السماء في قوله تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) فقال هي المجموعة الشمسية كلها والتي يجمعها الله تعالى يوم القيامة؛ وهذا وجه من التفسير مرفوض، لأن الآية لم تتناول المجموعة الشمسية؛ وإنما تناولت السماء التي تطوي طياً حسياً يوم القيامة.والسماء بهذا المعنى _ لفرط اتساعها وبعدها وسموها _ من الاستحالة بمكان أن يدركها العلم إلا تنظيراً ورجماً بالغيب والظن، ويلاحظ الباحث أن هذه الآية الوحيدة التي ذكر فيها الأرضون السبع _ وذكر فيها السماوات السبع التي ذكرت في مواضع أخرى أيضا _ قد ختمت بإشارة لطيفة وهي: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) ليعلم الناس مدى قدرة الله وأن علمه محيط بهذه السماوات السبع والأرضين السبع وكل ما فيهن؛ كأنما يشير إلى أن علمهم مهما بلغ فلا يمكن أن يحيط بذلك؛ وليس ذلك فحسب بل إن التصور المعتاد للبشر لا يرقى إليه؛ ولهذا قال ابن عباس عن هده الآية: (لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم؛ وكفركم: تكذيبكم بها) وقد سأل رجل ابن عباس أيضا عنها فقال: (ما يؤمنك إن أخبرتك بها فتكفر) وإذا كانت هذه هي السماء فكيف ما فوقها؛ يقول ابن مسعود: (ما السماوات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة)

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015