ولا شك أنّ المنهج الإستقرائي “ Induction” الذي يقوم بتصفح الجزئيات للخروج بالقاعدة الكلية التي تستند على العلية والاطراد قد كان أكبر خدمة قدمت من علماء المسلمين للبشرية جمعاء يقول بريفولت " إن ما نسميه بالعلوم قد جاء نتيجة لمناهج في التجربة والملاحظة والقياس أدخلت إلى أوربا بواسطة العرب. إن العلم الحديث هو أكبر إسهامات الحضارة الإسلامية"

وتقول زيغريد هونكة "إن المسلمين قد أسسوا الطرق التجريبية في أنواع العلوم وقدموا اكتشافات كثيرة في فروع المعرفة وبالإضافة إلى هذا قدموا للغرب أثمن هدية وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار الطبيعة"

ولم يكن هذا المنهج الذي تفرد به المسلمون وأصبح فيما بعد أهم أساس من أسس التقدم العلمي في الغرب – قد أتى من فراغ أو نشأ من العدم؛ وإنما كان ذلك بتأثير من الوحي الكريم، يقول الدكتور الزنيدي " كان المسلمون هم الذين أقاموا المنهج التجريبي وأحدثوا التميز في طرائق البحث العلمي وكان ذلك بتأثير مباشر من القرآن والسنة"

ثالثاً: مصدرية الكون للعلوم:

لما كان الكون مسخراً لمصلحة الإنسان ومهيأ له- فقد كان إدراك عناصره وجزئياته واستغلاله والاستفادة منه أمراً ضرورياً لا غنى عنه لكل البشر. ولأجل ذلك اتفقت النظرتان الإسلامية والعلمانية في هذا الجانب من المعرفة دون سواه؛ إذ عدّت كلا النظرتين الكون مصدراً أصيلاً للمعرفة، وقد سبق أنّ النظرة الإسلامية في المعرفة أكثر اتساعاً من تلك العلمانية التي أبعدت الوحي إبعاداً تاماً عن مضمار المعرفة، بينما النظرة الإسلامية قد آخت بين الكون والوحي الذي يتيح للعقل البشري رؤية أكثر وضوحاً وثبوتاً، وهذه هو جوهر الخلاف بين النظريتين الإسلامية والعلمانية.

1 - مصدرية الكون للعلوم الطبيعية:

إنّ من خصائص العلوم الطبيعية أنها ذات سمة مادية وصفة حسية وترتكز على القياس والتجربة الحسية؛ ولما كان الأمر كذلك فإنّ طبيعة هذه العلوم قد ساهمت مساهمة فاعلة في توافق هذه العلوم وانسجامها مع المنهج التجريبي الذي عمل فيها بنجاح واضح خلافاً لتلك العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تعثر فيها هذا المنهج تعثراً واضحاً.

ولا شك أنّ الحواس – وإن كانت تقوم بعملية الإدراك الحسي إلا أنها؛ كما سبق لا تستقل بتحصيل المعرفة؛ إذ أنها غير كافية في إدراكها ولهذا فإنّ العقل البشري يتدخل بصورة مباشرة ليقوم بالترتيب والتنظيم و الاستنتاج ومن ثم تحصل المعرفة.

ولا يقتصر دور العقل على ذلك فحسب بل أنه يقوم بالفروض اللازمة لتفسير المادة من جهة وبناء النظريات العلمية التي هي خيال ملائم من جهة أخرى.

وإذا كانت الفروض العلمية والأطر الأخلاقية الموجهة لتلك العلوم تحتاج إلى هدى الوحي بصورة لا تخفى - فإنّ إدراك الجزئيات ومعرفة خصائصها من خلال الكون باعتباره المصدر المادي للمعرفة أمر تتفق فيه البشرية. ولما كان الكون مصدراً للمعرفة حيث استعين به في معرفة جزئيات المادة وخصائصها وكيفية استغلالها والاستفادة منها، فإنّ ذلك قد منح العلوم الطبيعية قوة وجعلها في تقدم مستمر وازدهار متنام- إلا أنّ الأطر الأخلاقية لهذه العلوم قد ظل خاضعاً للأهواء والنزعات الإنسانية الفوضوية.

ولا شك أنّ هذه العلوم إذا تم ضبطها وتأطيرها بالوحي العاصم من الزلل - فإنّ ذلك من شأنه أن يعود بالسعادة على البشرية جمعاء.

2 - مصدرية الكون للعلوم الاجتماعية:

إنّ العلوم الاجتماعية والإنسانية تختلف اختلافاً واضحاً عن تلك العلوم الطبيعية وذلك لأنّ معطيات العلوم الاجتماعية والإنسانية غير قابلة للتجريب كمعطيات العلوم الطبيعية، ولهذا تعثر تطبيق المنهج التجريبي فيها إلى حد كبير.

وإذا كان الكون مصدراً أصيلاً للمعرفة لا خلاف عليه فإنّ الخلل المنهجي ليس في اعتماد الكون مصدراً للمعرفة؛وإنما هو في الاقتصار عليه وإبعاد الوحي، إذ ليس من المعقول إطلاقاً أن يستبعد الهدى الرباني في علوم تحاول توجيه الإنسان وتضبط سلوكه من ناحية بينما طبيعة هذه العلوم من ناحية أخرى ليست مادية بحيث تخضع للفحص في طاولة التشريح؛ بل إنّ طبيعتها قيمية بالدرجة الأولى.

خلاصة القول:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015