خيف على الأحكام أن تنزل على غير ما وضعت له أو أكثر مما وضعت له أو أقل.

وخلاصة القول في هذا المضمار أنّ الوحي العظيم موافق لعالم الحس تمام التوافق بحيث لا يتناقصان ولا يتعارضان، وهذه القضية قد جرَّت بعض الباحثين المعاصرين إلى مأزق كبير وهو محاولة التوفيق بين معطيات الوحي ومعطيات العلوم الحديثة؛ ومعلوم أنّ الوحي كلام إلهي مطلق الصدق والصحة؛ والعلوم الحديثة ليست كذلك؛ بل منها ما ثبت صدقه ومنها ما لم يتكشف سره انكشافاً تاماً ومنها النظريات التي لا دليل على صدقها ولا سبيل إلى تكذيبها بواسطة المنهج التجريبي حتى الآن على أقل تقدير، ولهذا فإننا نقول بشكل لا يقبل التنازل أن العلوم يجب أن تكون ثمرة من ثمرات القرآن وليس مجرد شاهد على صحته، إذ أن محاولة البحث عن الشواهد العلمية المثبتة لصحة القرآن تقود مباشرة إلى التوفيق والتلفيق كما سيأتى.

10 - تفاوت الخلق:

ذكر الله تعالى أن الأشياء الكونية متفاوتة الخلق حيث أن بعض المخلوقات أعظم من الأخر وهذا التفاوت ليس متعلقاً بقدرة الله تعالى، إذ أن خلقها لديه واحد، ولكن هذا التفاوت يتعلق بالمخلوقات في أنفسها، وليس الإنسان بأعظم خلقاً مما سواه، يقول الله تعالى:

? فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ?

وقال أيضاً: ? أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ?

وهذا الأمر يدل دلالة واضحة على أنّ الإنسان ليس أعظم المخلوقات خلقاً؛ وإنما هنالك من المخلوقات ما هو أعظم وأعقد، ولكن الإنسان ينظر إلى نفسه ويجهل لغروره قدرة الله تعالى التي لا تحدها حدود. ورغم هذا التفاوت الواضح بين المخلوقات إلا أنها جميعاً -كما سبق عند الله - يسيرة وعلى درجة واحدة؛ وما خلق واحد من الناس عنده إلا كخلق الناس كلهم.؛ قال تعالى:

? مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ?

11 - استخلاف الإنسان في الكون:

جعل الله تعالى الإنسان خليفة له يحكم بالعدل بين خلقه، والمقصود بالخليفة الحق هنا الإنسان الذي يقوم بطاعة الله لا الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه"

وقد علق الإمام القرطبي على ذلك بقوله: " هذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة " ولا شك أنّ الاستخلاف في الأرض يقتضي الإعمار وتسخير الكون قال تعالى:?هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ?

وقال أيضاً: ?هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ?

ولما كان الأمر كذلك فيجب على الإنسان أن يراعي أوامر من جعله خليفة له ويجتنب نواهيه في تعامله مع الكون؛ وإلا فإنّ سعي الإنسان للفساد في الكون وسفك الدماء جرياناً وراء طموحه الذي لا ينتهي سوف يعود بالضرر على الإنسانية جمعاء كما هو حادث في الحضارة الغربية السائدة الآن.

12 - إمكانية إدراك عناصر الكون:

من الأمور الثابتة عند المسلمين كما سبق أنّ المعرفة ممكنة؛ وليس هنالك من شيء يمنع الإنسان عن هذه المعرفة، وقد أمر الله تعالى في كتابه العزيز بالسير في الأرض والتفكر في خلق السماوات والأرض قال تعالى: ? قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ?

وقال أيضاً: ? أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ?

فهذه الآيات الكريمة تدعو للنظر والتفكر فيما خلق الله من شيء، ولو لم تكن المعرفة ممكنة ومتاحة لما كان لهذا الأمر الإلهي من معنى.

والحق أنّ المسلمين الأوائل قد تعاملوا مع هذه الأوامر تعاملاً جاداً فأتوا بالمنهج التجريبي فترجموا هذه الأوامر الإلهية إلى منهج عملي. وقد أصبح المنهج التجريبي معلماً واضحاً من معالم الحضارة الإسلامية حيث استخدم في التعامل مع الطبيعة. ومن الذي طبقوا هذا المنهج التجريبي من الأطباء ابن الهيثم الذي استقرأ وتصفح وخرج بالنتائج، ومن علماء النبات ابن البيطار الذي ذهب إلى إثبات ما صح عنده بالمشاهدة والنظر والخبرة وغيرهما كثيرون.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015