ومصدر الخلل يرجع في الأساس إلى أنّ الممارسة العملية أدت إلى عدم تكامل المصادر المعرفية في كلا النموذجين؛ إذ من المفترض نظرياً أن يحدث انسجام وتكامل بين المصادر المعرفية في التصور الإسلامي، ذلك أنّ معطيات الدِّين الإسلامي قائمة على العقل، والوحي دائم الحض للناس جميعاً على المشاهدة القائمة على الحواس وعلى التدبر العقلي المتسم بالإخلاص لله سبحانه في البحث عن الحقيقة. ويتجلى تكامل مصادر المعرفة ووسائلها بشكل مثالي في عالم الإسلام في أنّ الوحي يقدِّم للبشر أطراً تصورية يقينية تتصل بكل من:

أ-المعارف المتصلة بعالم الغيب.

ب - كليات عالم الشهادة.

وأنّ العقل المهتدي بالوحي يقوم بالربط بين معطيات الحواس لإضفاء المعنى عليها وبدلاً من الاعتماد على مجرد الخيال والتخمين يعتمد على ما يأتي به الوحي من أطر تصورية عامة

ونتيجة لهذا الخلل فقد كان الفشل والتخلُّف قرين العمل الإسلامي ومشاريع الإصلاح، فالمشروع الغربي في بلاد المسلمين قد فشل، لأنه نتاج ثقافة مغايرة لثقافة المجتمع، فضلاً عن تجاهله لمعادلة الأمة الثقافية والاجتماعية، وتناقضه مع كينونة الأمة، وتكريسه للهيمنة الثقافية، وترسيخه للكبرياء الغربية، وخصوصيته واعتماده على قواعد الصراع كما فشل المشروع التقليدي الذي أشاع فلسفة العزلة والنفور من الدُّنيا رغم أنّ الدنيا مزرعة للآخرة. ولهذا فقد تعالت الصيحات لأجل إصلاح الفكر الإسلامي وتجديده.

د- حلول لأزمة المعرفة الإسلامية:

انتهت النظريات الوضعية في العلوم الاجتماعية إلى نتائج سلبية فيما يتعلق بالأسس المنهجية التي قامت عليها، وكانت هذه الصورة التي انتهت إليها نتيجة طبيعية للبيئة الثقافية التاريخية التي نشأت فيها، وعندما دخلت هذه النظريات الاجتماعية إلى عالمنا الإسلامي نقلت معها أزمتها المعرفية القائمة على الصراع بين العلم والدين فجاءت الدراسات الاجتماعية والإنسانية في العالم الإسلامي لتعكس مثيلاتها في العالم الغربي. وعلى غرار التجربة الغربية التي قامت بالدعوة إلى معارضة الدين قامت محاولات مماثلة في العالم الإسلامي لتعكس هذه الخصومة وهدفت إلى جعل دين المنهجية الإسلام مجرد تراث ثقافي يدخل ضمن الإرث التاريخي للأمة وليس واقعاً حيّاً وفكراً حاضراً

ولهذا فإنّ هناك اتفاقاً يشبه الإجماع بين المهتمين بإصلاح العلوم وإعادة صياغتها وفق التصور الإسلامي الصحيح على ثلاثة أمور هي

1 - إنّ مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة ونظرياتها والمسلمات الأساسية التي تقوم عليها تلك العلوم في صورتها الراهنة تتضمن كثيراً مما يتعارض ويتناقض مع التصور الإسلامي الصحيح للإنسان والمجتمع والوجود.

2 - أنّه قد ترتب على هذا القصور والاختلال المعرفي عجز تلك العلوم أو على الأقل قصورها حتى الآن عن التوصل إلى تفسيرات مرضية للسلوك الفردي أو للظواهر الاجتماعية لا في المجتمعات الإسلامية وحدها وإنما في غيرها من المجتمعات كذلك.

3 - أنّ هناك حاجة ماسة إلى إعادة النظر في تلك المناهج والنظريات والمسلمات بطريقة جذرية في ضوء التصور الإسلامي.

إنّ معالجة الإشكالية المنهجية للعلوم لا تتم إلاّ وفق التصور الإسلامي الصحيح حيث إنّ هذا التصور ينبثق من مصدر إلهي "الوحي" وهو يضع حلولاً لهذه الأزمة تتمثل في النقاط التالية:

1 - إنّ الظواهر الإنسانية ليست في واقعها وحقيقتها مظاهر حسية، وغياب هذا الإدراك الواعي جعل المنهجية الوضعية تقدَّس الطريقة التجريبية كأسلوب وحيد للمعرفة؛ والمذهبية الإسلامية تقرَّر أنّ الحقيقة العلمية ليست حكراً على التجربة وأنّ الوجود الواقعي ليس حكراً على الوجود المادي، وأنّ التزام الأسلوب العلمي في دراسة الظواهر الاجتماعية لا يتحول بالضرورة إلى الاعتقاد في التجريب كطريق وحيد مشروع ورفض ما عداه من الطرق، ومعنى هذا أنه ليس من الضروري أن نتحدث عن شكل واحد من أشكال العلمية، فالنموذج الطبيعي في العلوم الفيزيائية لا ينفي وجود أنواع أخرى من العلوم تتعلق بمواضيع ذات طبيعة مغايرة للطبيعة المادية، كما أنّ تأكيد العلم الطبيعي على الجوانب المادية في الحياة لا ينفي بالضرورة وجود جوانب غير مادية فيها

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015