3 - اعتبر النموذج الطبيعي سلطة مرجعية للعلوم الإنسانية والاجتماعية؛ وذلك لتحقيق أكبر قدر من العلمية؛ على الرغم من أنّ الظواهر الإنسانية والاجتماعية ليست في واقعها وحقيقتها مظاهر حسية فهناك جوانب غير مادية في الإنسان بما في ذلك تفكيره وسلوكه وغاياته التي لا يمكن التعرُّف عليها عن طريق الملاحظة الداخلية أي بفهم المعاني التي تعبِّر عنها هذه التصرفات وهي معاني نابعة من شعور الإنسان وإحساسه الداخلي.
4 - استبعدت العوامل الرُّوحية والقيم من نطاق الدِّراسة؛ وهي قضايا تشكِّل جزءً مهماً من نشاط الإنسان في تفكيره وثقافته وعاداته وتؤثِّر في توجيه سلوكه وتصرفاته. وبالتالي تم استبعاد ما يتولد عن هذا النشاط الإنساني من علوم مرتبطة بقيم الإنسان، وهي العلوم العقدية.
5 - زعمت نظريات العلوم الإنسانية والاجتماعية لنفسها حياداً قيمياً لم تلتزم به في الواقع حيث كرست قيم الثقافة الغالبة وجعلتها المعيار الذي يقاس عليه كل تقييم إنساني، أو اتجهت إلى نسبية قيمية أضاعت كل تقييم، وهذا يؤكِّد وجود تحيز معرفي في تلك العلوم
6 - انتهت المنهجية “ Methedology” الوضعية إلى إنكار وجود إله خارج الشعور الجماعي لأفراد المجتمع أو خارج شعور أفراد الإنسانية جمعاء فضلاً عن الاعتراف بوجود موجودات عالم الغيب بما في ذلك اليوم الآخر.
7 - الأهم من ذلك كله هو عدم الاعتراف بالوحي مصدراً للمعرفة، وهو العامل الأهم في فساد الفلسفة الوضعية، لأنها بإبعادها الوحي حصرت نفسها في الوجود المادي ولم ترَ وجوداً وراء هذا الكون المحسوس، وكان من جراء ذلك انتفاء الإحساس بوجود سلطة عليا يكون الإنسان مسؤولاً لديها عن تصرُّفه. ولما كانت شهوات الإنسان وأمانيه لا حدود لها، وما تحويه البيئة في أي وقت من الأوقات ومكان من الأمكنة محدود بالنسبة إلى ما يتطلبه إشباع تلك الشهوات - فقد صار العلم هو السلاح الذي انتهكت به حرمة البيئة، وكانت التقنية هي سبيل هذا الإنسان الدنيوي لإحداث هذا الانتهاك حتى ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس .. لقد كان سوء استغلال العلوم الحديثة والتقنية التي أنجبتها وإفساد الأرض هو ثمرة طبيعية للفلسفة الوضعية التي لم تر للكون ولا للبيئة حرمة"
الخلاصة:
1 - نتيجة لانحصار الفلسفة الغربية في دراسة الواقع المحسوس أو عالم الشهادة فقد تمركزت حول الذات الإنسانية والطبيعة، وأدى هذا إلى تأليه الإنسان والطبيعة، حيث الإيمان العميق بالعالم الطبيعي على أنه العالم الوحيد الذي يسعد فيه الإنسان ويجد فيه مطالبه ويلبي حاجياته المادية والروحية، وإيمان عميق بالإنسان على أنه مركز الثقل في العالم، والإيمان بالعقل وحده على أنه الوسيلة الوحيدة التي تضمن السَّيطرة على العالم وتسخير إمكاناته بالاعتماد على العلم، والنتيجة هي شيوع العلمانية والإلحاد والفوضوية والشك والعدمية
2 - إنّ النجاحات التي حققها المنهج العلمي الوضعي قد انحصرت في مجال العلوم الطبيعية، غير أنّ هذا المنهج التقليدي قد فشل فشلاً ذريعاً في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية حيث سارت هذه العلوم في طريق مسدود لم تستطع تجاوزه في محاولاتها للتوصل إلى فهم واقعي للنفس الإنسانية، يشهد بذلك ما تعانيه تلك المجتمعات المتقدمة من مآسي إنسانية ومشكلات اجتماعية عميقة يبدو أن لا أمل في حلها من خلال المنظور السائد. وهذا سببه انحياز في النظرة التقليدية الغربية للعلم الذي حصر نفسه في عالم الشهادة وأهمل عالم الغيب بإهماله الوحي ومعارفه.
وقد احتج بعض العلماء الغربيين على مناهج المعرفة المعاصرة وذكروا أنه لا بد من طريقه جديدة للمعرفة، ولا بد من معنى أوسع للعلم؛ إذ أنّ ملحد القرن التاسع عشر الميلادي قد حرق البيت بدلاً من أن يعيد ترميمه حيث رمى بجميع الأسئلة التي طرحها الدَّين وأدار ظهره لكل مقررات الدِّين، لأنّ القائمين عليه قد أتوا بإجابات لا يستطيع قبولها ولكن اليوم وقد أصبح العالم أكثر معرفة واستنارة فقد أصبح واضحاً لديه أنّ موضوعات البحث الدَّينية ومباحث الدَّين والأسئلة التي يطرحها حول النشأة والوجود والمصير قضايا علمية تستحق الاحترام الكامل. وهي قضايا عميقة الجذور في الطبيعة البشرية ويمكن دراستها وتمحيصها بأسلوب علمي رصين، وأنّ الكنيسة كانت تحاول
¥