والواقع أنّ الفكر في عصر النهضة الأوربية اتسم بنزعة شديدة العداء للسلطة الدِّينية كما اتسم برغبة جامحة في الخلاص بكل السُّبل من الخضوع للقيادة الفكرية والعلمية لتلك السُّلطة الدِّينية.ولهذا فلم يكن هناك مفر من البحث عن مصدر للحقيقة يكون بديلاً للسُّلطة الدِّينية، وكلما كان ذلك المصدر مناوئاً ونقيضاً للمصدر الدِّيني كلما كان ذلك أفضل، ولم يكن هناك من مصدر أفضل من التركيز على الخبرة الإنسانية واستخدام الحواس كأساس للمعرفة العلمية الحقة؛ فاعتماد الحواس يحرِّر الإنسان ويعطيه قيمته؛ والحس يقلِّل إلى أقصى حد من قيمة المصدر الدَّيني، ولقد كان للسير فرانسيس بيكون أثر بارز في توجيه العلم للاقتصار على الخبرة الحسِّية وتأسيس الاتجاه الحسي “ صلى الله عليه وسلمmpiricism” ويقابل هذا الاتجاه العقلاني “ Rationalism” الذي يقلِّل من شأن الحس وكان رينيه ديكارت مؤسساً له
وكان من نتائج هذا الصراع أن نشأت أزمة معرفية ظهرت واضحة للعيان في مناهج العلوم وأثّرت بدورها على مجمل أوجه ومجالات الحياة، ذلك أنّ إقصاء الوحي من توجيه المعرفة أدى لانحصار المعرفة في مجال العالم المشاهد، وطبع المعرفة بطابع الظنية والنسبية وما ذلك إلا لأنّ المعرفة كانت معرفة بشرية قاصرة عن إدراك ما وراء الحواس.
ب- جوهر الأزمة الغربية
ألمحنا فيما سبق لعموميات الأزمة وسوف نتحدث هنا بشيء من التفصيل، فقد كانت المعرفة الغربية في مرحلة سيادة الكنيسة معرفة مستمدة من الوحي رغم ما اعترى الوحي المسيحي من تشوهات
وكان من نتائج الصراع بين الكنيسة والعلماء أن تحولت المعرفة إلى معرفة بشرية محصورة في الواقع المشاهد، فالمحسوس والمشاهد الذي يخضع للاستقراء والتجربة والقياس الكمي وحده هو العلم وما عداه أي كل ما لا يخضع للاستقراء والتجربة والقياس الكمي- يعتبر لا علم وتعتبر قضاياه بلا معنى. وهذه هي الرُّوح العلمية التي بلورها بيكون؛ حيث الاقتصار على ما هو موضوع أمامنا في العالم الواقعي التجريبي والإنصات لشهادة الحواس كمصدر للمعرفة وأن الطبيعة هي مملكة المعرفة ويجب الحيلولة دون أن يتجاوزها العقل، وعلى مدار العصر الحديث تبارى الفلاسفة الإنجليز في تأكيد التجريبية والنظرية الحسية في المعرفة والعزوف عن الغيبيات "الميتافزيقيا".
وهكذا فإنّ الظروف التاريخية والثقافية والاجتماعية التي نشأ في ظلها العلم الأوربي الحديث وتطوّر قد أدت في النهاية إلى صياغة نظرية المعرفة “ صلى الله عليه وسلمpistemlogy” التقليدية في اتجاهات تنأى بالعلم عن أن يكون له أدنى صلة بالتصورات الدَّينية: اتجاهات تحصر اهتمام العلم في الظواهر التي يمكن مشاهدتها بالحواس والتي تتوقف بالتالي عند دراسة ما هو كائن وواقع دون إعطاء أي مشروعية علمية لتقويم هذا الواقع
مما سبق يمكننا تلخيص جوهر الأزمة المعرفية الغربية في الآتي:
1 - إنّ مفهوم العلم كما بلورته الفلسفة الغربية صار ينظر إليه من زاوية أكثر محدودية حيث صار مفهوم العلم هو " المعرفة المصنفة التي تمّ التوصل إليها باتباع قواعد المنهج العلمي مصاغة في قوانين عامة للظواهر الفردية المتفرقة " وهذا العلم يقوم على الاستقراء الذي يعتمد على الملاحظة ووضع الفروض وإجراء التجارب للتحقق من صحة الفروض، وعلى هذا فقد أصبح العلم – عندهم – يقتصر على دراسة ما يعرف بالواقع المحسوس أو الواقع الامبيريقي أي الظواهر التي يمكن إدراكها بالحواس. أما عن المنهج فإنّه يركِّز بصفة أساسية على الاستقراء، ومعنى هذا أنّ موضوعات الدراسة التي تتصل بقطاعات أخرى من الظواهر تخرج عن نطاق المشاهدة الحسية مهما كانت أهميتها لسعادة الإنسان فإنّها مستبعدة تماماً عند علماء العصر الحديث من نطاق الدراسة العلمية وكأنّ عالم المحسوسات هو وحده الذي له وجود حقيقي
2 - إن اعتماد النموذج التطبيقي – القائم على منهج الاستقراء- في مناهج البحث قد حقّق نجاحاً باهراً في مجال العلوم الطبيعية وذلك بسبب تعامل هذه العلوم مع ظواهر ذات طبيعة بسيطة التكوين؛ حيث تقوم هذه العلوم على استقراء الظواهر الجزئية المحسوسة وصولاً إلى تعميمات تصدق في كل زمان ومكان بعد ثبوت مطابقتها للواقع المحسوس. وقد استبعدت هذه العلوم تماماً القيم الرُّوحية والدينية أي عدم وجود السياج الأخلاقي. وهو ما أدى إلى حدوث آثار هدّامة.
¥