ومن ثم لم ينزل الله في هذه الفترة تنظيمات وشرائع ;
وإنما نزل لهم عقيدة , وخلقا منبثقا من العقيدة بعد اسقرارها في الأعماق البعيدة. .
فلما صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان تنزلت عليهم الشرائع ;
وتقرر لهم النظام ; الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية ;
والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدية والنفاذ. .
ولم يشأ الله أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة ,
ليختزنوها جاهزة , حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة!
إن هذه ليست طبيعة هذا الدين!
إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية!
إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولا. .
إنما هو يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته لصوغه في قالبه الخاص , وفق حجمه وشكله وملابساته. .
والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام , وأن يصوغ تشريعات حياة. .
بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها , ورفض كل شريعة سواها ,
مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه. .
الذين يريدون من الإسلام ذلك لا يدركون طبيعة هذا الدين , ولا كيف يعمل في الحياة ; كما يريد له الله. .
إنهم يريدون منه
أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية , ومناهج بشرية.
ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته
ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة. .
إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض , تواجه مستقبلا غير موجود. .
والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده. .
عقيدة تملأ القلب , وتفرض سلطانها على الضمير.
عقيدة مقتضاهاألا يخضع الناس إلا لله , ولا يتلقوا الشرائع إلا من الله.
وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم , ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم ,
تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية , وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك.
كذلك يجب أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية ,
أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين ,
يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة - حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين!
وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون –
يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولا إقرار عقيدة: لا إله إلا الله بمدلولها الحقيقي ..
وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله , وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم. .
إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم , وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم. .
ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام كما كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة. .
هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاما كاملة. .
فإذا دخل في هذا الدين - بمفهومه هذا الأصيل - عصبة من الناس ,
فهذه العصبة هي التي تصلح لمزاولة النظام الإسلام في حياتها الاجتماعية ;
لأنها قررت بينها وبين نفسها أن تقوم حياتها على هذا الأساس ; وألا تحكم في حياتها كلها إلا الله.
وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه ;
كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية ,
في إطار الأسس العامة للنظام الإسلامي. .
فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي الواقعي العملي الجاد. .
ولقد يخيل إلى بعض المخلصين المتعجلين ,
ممن لا يتدبرون طبيعة هذا الدين , وطبيعة منهجه الرباني القويم ,
المؤسس على حكمه العليم الحكيم , وعلمه بطبائع البشر وحاجات الحياة. .
نقول لقد يخيل لبعض هؤلاء
أن عرض أسس النظام الإسلامي - بل التشريعات الإسلامية كذلك - على الناس مما ييسر لهم طريق الدعوة ,
ويحبب الناس في هذا الدين!
وهذا وهم تنشئه العجلة!
وهم كالذي كان يقترحه المقترحون: أن تقوم دعوة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] –
في أولها تحت راية قومية , أو اجتماعية , أو أخلاقية , تيسيرا للطريق!
إن النفوس يجب أن تخلص أولا لله ,
وتعلن عبوديتها له , بقبول شرعه وحده ورفض كل شرع غيره. . من ناحية المبدأ. .
قبل أن تخاطب بأي تفصيل عن ذلك الشرع يرغبها فيه!
إن الرغبة يجب أن تنبثق من الرغبة في إخلاص العبودية لله , والتحرر من سلطان سواه. .
لا من أن النظام المعروض عليها. . في ذاته. . خير مما لديها في كذا وكذا على وجه التفصيل.
إن نظام الله خير في ذاته , لأنه من شرع الله.
¥